الانتخابات الفرعية .... ان حصلت
كتب مارك ابو عبدالله:
تطور، ومنذ أواسط القرن العشرين في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، علمٌ يُعرف بعلم الانتخابات. ولهذا الأخير أهمية كبيرة أكان من ناحية خصائصه كعلم متعدد الاختصاصات une science multidisciplinaire، او من ناحية المنهجية العلمية المتبعة في دراسته.
وتقوم هذه الأخيرة على مقاربة مجموعة من العلوم من بينها التاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والاقتصاد والاحصاء وتحليل الأرقام، بهدف دراسة مسار ونتائج وأرقام اي دورة انتخابية، والتي على أساسها يتّم رسم استراتيجيات ووضع خطط متعلقة بمسار أي عملية انتخابية في المستقبل، وتحديدًا بما هو متعلق بحملة أي مرشح وما يتضمنها من تهذيب للخطاب السياسي وتحديد اطر الحملة الإعلامية ووضع الآليات المتعلقة بالتواصل مع الناخبين وما الى ذلك من أمور ذات صلة بالانتخابات. وبناءً على علم الانتخابات هذا، سنستشرف في هذا المقال العملية الانتخابية الفرعية المُزعم اجرائها في شهر حزيران المُقبل، والتي ستجري في ستة دوائر على أساس النظام الاكثري، وفي دائرة واحدة على أساس النظام النسبي، بهدف ملئ عشرة مقاعد، شغر ثمانية منها نتيجة استقالة ثمانية نواب من المجلس النيابي بعد جريمة المرفأ في ٤ اب ٢٠٢٠، وشغر اثنان نتيجة وفاة كل من النائبين ميشال المر وجان عبيد.
بداية، لا بدّ من وضع استقالة النواب الثمانية ضمن السياق العام للأحداث، وما رافقها من تطورات محلية. إذ أتت الاستقالة بعد حوالي عشرة اشهر على انتفاضة شعبية هزّت عروش الطبقة الحاكمة وانهكتها واسقطت حكومتين وشخصية مكلفة تشكيل الحكومة. هذا فضلاً عما حققته هذه الانتفاضة من نمو في الشعور في الانتماء الوطني وزيادة ثقة الشعب بنفسه، خاصةً بعدما نجح هذا الأخير في التحول الى قوة رقابية مشددة على صفقات وسمسرات اهل السلطة. وعبّرت هذه الانتفاضة الشعبية الراقية عن مطالب الشعب الأساسية والمتمثّلة في ضرورة تغيير النهج السياسي القائم بصورة أساسية على غياب اخلاق اركان المنظومة الحاكمة. ومن هذا المنطلق المجرد من أي مصلحة شخصية، أتت استقالة بعض النواب، وتحديدًا نواب حزب الكتائب من المجلس النيابي، من جهة، كتنفيذ لإرادة الناس، ومن جهة أخرى، كالمساهمة في انتهاج طريقة جديدة قائمة بصورة أساسية على اعتماد الاخلاق كمعيار أساسي ووحيد في تعاطي الشأن العام. هذا فضلاً عن ان الاستقالة هي ابهى صورة من صور النظام الديمقراطي، خاصةً وان غالبية اللبنانيين يطالبون ومنذ ١٧ تشرين بتعزيز الديمقراطية وتقوية أسسها. إلا ان اركان المنظومة الحاكمة ما زالوا، وللأسف، بعيدين سنين ضوئية عن هذا الواقع ويضعون حساباتهم الشخصية والفئوية الضيقة فوق أي اعتبار اخر، حتى ولو كان ذلك على حساب القانون والدستور. وابلغ مثال على ذلك، إنه لو ارادت السلطة الحاكمة فعلاً احترام اللبنانيين، واقله من يمثلون، لكانوا بادروا الى الدعوة الى هذه الانتخابات وفق القواعد الدستورية والقانونية المرعية الاجراء، وتحديدًا المادة ٤١ من الدستور، والفقرة الأولى من المادة ٤٣ من قانون الانتخابات النافذ.
اما في ما يتعلق بطبيعة المعركة المتوقعة، فمن شبه المؤكد، ان لا تشهد كل من دوائر الشوف وعاليه وزغرتا معارك انتخابية، فوفق ارقام انتخابات العام ٢٠١٨، فإن النتيجة شبه محسومة في هذه الدوائر لكل من الحزب التقدمي الاشتراكي في دائرتي الشوف وعاليه، ولتيار المردة في دائرة زغرتا، الذي حاز في الدورة الماضية على ما نسبته ٢١،٥٤٪ من مجمل الأصوات التفضيلية في قضاء زغرتا. أما في ما يتعلق بدائرة طرابلس، فإن المعركة ستجري على المقعد الماروني، وهنا لا بدّ من الإشارة الى ان هذا المقعد جرى تخصيصه من قبل سلطات الاحتلال السوري قبل انتخابات العام ١٩٩٢، عندما عمد هذه السلطات الى زيادة ٢٠ مقعدًا على ال١٠٨ مقاعد جرى الاتفاق عليها في الطائف. وهدف الاحتلال من وراء ذلك، من جهة، اغراق التوازن الإسلامي-المسيحي، الذي يفرض المناصفة، بالمسيحيين المنتخبين في مناطق يسهل التحكم بناخبيها لأسباب طائفية وسياسية، ومن جهة أخرى، إرضاء حلفائه خاصةً أولئك الذين قاتلوا في خطه السياسي عبر توزيع المكاسب والمناصب والمغانم عليهم. وعليه، وامام عدم تجاوز عدد الناخبين الموارنة في دائرة طرابلس بضعة الآف، فإن المعركة ستكون بين القوى السنّية الرئيسية وتحديدًا بين تيار المستقبل وتيار العزم واشرف ريفي ومصباح الاحدب.
اما في ما يتعلق بدائرة كسروان، حيث يبلغ عدد الناخبين حوالي ٩٤ الف فقد توزعت الأصوات التفضيلية في انتخابات ٢٠١٨ على الشكل التالي: نال شوقي الدكاش، مرشح القوات، على ما نسبته ١١٪، مرشحي التيار، أي شامل روكز وروجيه عازار على حوالي ١٥،٦٥٪، نعمة افرام على حوالي ١١٪، وفريد الخازن على حوالي ١٠٪. وبناءً على هذه الأرقام، وان حصل توافق بين اركان المعارضة أي القوات ونعمة افرام وفريد الخازن، فإن هؤلاء يستطيعون بسهولة الفوز بالمقعد، أما اذا لم يحصل توافق فإن كسروان ستشهد معركة ضارية قد تؤدي على الأرجح الى فوز مرشح التيار. اما في بيروت الأولى، حيث يبلغ عدد الناخبين حوالي ١٣٥ الف، فإن نسبة الاقتراع عادة ما تكون منخفضة لعدة أسباب منها أنثروبولوجية متعلقة بطبيعة المجتمع المُدني في تلك الدائرة، وهي لا تتعدى في اقصى الحالات ٣٥٪. وفي الانتخابات الماضية، توزعت الأصوات على لائحة التيار التي حازت على ١٨٣٧٣ صوتًا، ولائحة تحالف الكتائب والقوات على ١٦٧٧٢ صوتًا، ولائحة المجتمع المدني على ٦٨٤٢ صوتًا. وإذا ما قرر حزبي الكتائب والقوات المشاركة، فإن المواجهة ستكون شرسة مع التيار.
اما في ما يتعلق بدائرة المتن، فلهذه الأخيرة أهمية كبيرة إذ تُشكل، ومنذ العام ١٩٦٠، بوصلة التوجهات السياسية العامة على صعيد لبنان ككل كما على الصعيد المسيحي. ونظرًا للتنوع السياسي والاجتماعي فيها، فإنها ستشهد امّ المعارك الانتخابية، بين القوى المسيحية الرئيسية، خاصةً وانها الدائرة الوحيدة التي ستجري فيها الانتخابات على أساس النظام النسبي. بلغ عدد المقترعين في الانتخابات الماضية ٩٠ الف و٤٠٢ مقترعًا، وتوزعت الأصوات التفضيلية على الشكل التالي:
نظرًا للتحولات السياسية والاجتماعية الأخيرة، ونظرًا لعدم وضوح خارطة التحالفات في المتن، يصعب علينا معرفة النتائج الدقيقة مسبقًا، خاصةً انه لم يُعرف بعد الموقف النهائي لحزب الكتائب اللبنانية كما للدائرة المقرّبة من النائب ميشال المر حول المشاركة او عدمها في هذا الاستحقاق.
ان الانتخابات الفرعية، وفي ظل الظروف الراهنة، لا يمكن ان تكون معيارًا دقيقًا يُقاس على أساسه الحجم السياسي للقوى والاحزاب. ففي عام ١٩٤٨، رفضت المعارضة المكوّنة من كل من كمال جنبلاط وكميل شمعون والكتائب والكتلة الوطنية المشاركة في الانتخابات الفرعية لملئ مقعدين شاغرين في دائرة محافظة جبل لبنان، مطالبةً في المقابل بانتخابات نيابية مبكرة. كما انه وعلى الرغم من فوز كل من اميل لحود من المتن وسليم الخازن من كسروان المواليان للسلطة وللرئيس بشارة الخوري، فإن هذا الأخير لم يستطع الصمود، تحت وقع الاحتجاجات الشعبية، حتى نهاية عهده المجدد له عام ١٩٤٩، إذ سقط بفضل هذه المعارضة في الثورة البيضاء عام ١٩٥٢، والتي انتهت بانتخاب احد ابرز الوجوه المعارضة، النائب كميل شمعون، رئيسًا للجمهورية.