البقاع الغربي: قوة مراد والفرزلي بضياع "المستقبل".. والمعركة مارونية
عبد الرحيم مراد الممانع
فعلى خلاف ما جرى في دائرة زحلة التي فقدت حيثيتها السياسية المحلية منذ اجتاحتها الأحزاب، ظلت بعض "بيوتات" البقاع الغربي السياسية التي خلفها الوجود السوري، حاضرة في مجتمعاتها بعد سنة 2005، وتنتظر الظرف المناسب لاقتناص فرصها مجدداً. وقد استمد بعضها قوته من المؤسسات التربوية والاجتماعية (عبد الرحيم مراد خصوصاً) التي توسعت في المنطقة. وبعضها زبائني عززه غياب مؤسسات الدولة، وانهيار الأوضاع الاقتصادية العامة في البلاد. فيما ارتاح بعضها الآخر في صحن حلفائه "الأقوياء"، محاولاً أن "يغرف" قدر ما يشاء من قدرتهم التجييرية لمصلحته.
مقاعد ستة هي حصة دائرة البقاع الغربي من الهيئة العامة لمجلس النواب. وهي موزعة على الشكل التالي: نائبان سنيان، نائب شيعي، نائب درزي، نائب ماروني، ونائب أرثوذكسي. وإذا كان أحد مقعدي الدائرة ارتبط دائما بمركز قرار "السنية السياسية" في بيروت (الحريري) أثناء الوجود السوري، فإن اللاعب السني الأبرز في البقاع الغربي، قبل تمدد تيار المستقبل إلى الدائرة، كان النائب والوزير عبد الرحيم مراد، بما حملته "مؤسسات الغد الأفضل" التي رأسها، من خدمات اجتماعية وتربوية، سمحت له بتأسيس "مملكته" التي ظلت تحوم في فلك الفريق الممانع.
واعتُبرت خسارة مراد الأولى في هذه الدائرة بعد اغتيال رفيق الحريري، خسارة للنظام السوري في لبنان. وعكس ذلك تغيراً واضحاً في المزاج السنّي البقاعي، وترجمة لمواقفه "السيادية" ضد النظام السوري بعد خروجه من لبنان.
فرص المستقبل الضائعة
لكن تيار المستقبل -رغم فرصه الكثيرة والخسائر الانتخابية السابقة التي ألحقها بمراد وفريقه- لم ينجح في الحفاظ على مكاسبه ليكون الطرف السياسي الأوحد في إحدى أبرز ساحات "السنية السياسية" اللبنانية. فاستغل فريق مراد الثغرات السياسية والاجتماعية التي خلفها المستقبل، وانبعث مجددا من دون أن يضطر إلى تعديل توجهاته السياسية لتتلاءم مع قناعات ناخبي الدائرة وطموحاتهم ببلد مستقر، بعيداً من سياسة المحاور الإقليمية، وإمعانها في توريط البلد في الانقسامات. فكان أن نال مراد العدد الأعلى من الأصوات التفضيلية في الانتخابات النيابية الأخيرة.
أما الانتخابات النيابية المقبلة، فقد تشكل خطوة كبرى لإعادة استنساخ المكانة المعروفة لفريق مراد الممانع منذ ما قبل الانسحاب السوري، مستفيداً من الغياب المدوي لتيار المستقبل عن الساحة حتى الآن. وبعد سلسلة الهفوات التي ارتكبها التيار في اختياره الشخصيات السنية التي خاض بها المواجهة في هذه المنطقة. وهناك أيضاً "الخطيئة" الكبرى التي وقع فيها المستقبل في "تسوياته المركزية" خلال الانتخابات النيابية الأخيرة سنة 2018. ومن ثم أداء نوابه في ولاية المجلس الحالي والمجالس السابقة. وهذه كلها عوامل أوصلته إلى الانتخابات النيابية المقبلة عارياً من مقومات المواجهة الأساسية مع خصمه.
خسارات الانتخابات الأخيرة
ويعكس الواقع الانتخابي لتيار المستقبل حالياً انحداراته، منذ اضطراره إلى الاستعانة بحلفاء محليين أقوياء سنة 2018، وقبوله بشروطهم، حفاظاً على مقعد واحد من مقعديه السنيين في هذه المنطقة. لذا حالف محمد قاسم القرعاوي -وهو شخصية سنية بارزة في نسيج البقاع الغربي، ويتحدر من عائلة جذورها ضاربة في الخدمة الاجتماعية والصحية- وجد فيها المستقبل فرصة لزيادة حواصل لائحته من خارج بيئة تياره، لمقارعة خصمه الحاضر اجتماعياً وسياسياً في المنطقة. وهكذا شكل التحالف التقاء مصالح الطرفين، بعدما كان القرعاوي قد خاض انتخابات 2009 في الصف المواجه للتيار الأزرق بالتحالف مع الوزير عبد الرحيم مراد.
والواقع التراجعي لتيار المستقبل، وضع القرعاوي في موقع مرتبك وسط أبناء بيئته، فخسر "تقدير" مجتمعه لمسيرته، ولم يربح التيار الأزرق سوى عضو إضافي في كتلته الغائبة عن هموم الناس منذ مدة. وأطاح ترشيح القرعاوي ترشيح "صقر" المستقبل في البقاع الغربي جمال الجراح، وسط التململ الذي خلفه أداء نواب تيار المستقبل "السنة" خلال الدورات السابقة، فخسر مرشحه الثاني في هذه الانتخابات زياد القادري، الذي نال العدد الأدنى من الأصوات التفضيلية. ولم يربح المستقبل في المقابل بتسميته الجراح وزيراً في الدائرة. وبعد تواري الأخير عن الساحة السياسية منذ ثورة 2019، تحول طيفاً تحضر سيرته مرتبطة بالأزمات التي يمر بها البلد، وأحياناً كثيرة "متهماً"، وخصوصاً في الوزارات التي تولاها، وأبرزها وزارة الاتصالات.
قوة الشيعة وفشل تشرين
والوهن الذي أصاب المستقبل سنياً في البقاع الغربي، جعل بيئته أكثر انفتاحاً على الحراكات الشعبية الاعتراضية التي بدأت منذ سنة 2019. لكن الانتكاسة التي تعرضت لها إرادة التغيير، بسبب عدم تمكن المجموعات الاعتراضية من فرز شخصيات مقنعة، عززت موقع الشخصيات السنية التقليدية، ولا سيما النائب عبد الرحيم مراد ونجله، مستخدمين "مؤسسات الغد" سلاحاً انتخابياً ماضيًا يبرز عجز خصمه.
في المقابل يشكل شيعة البقاع ثاني أقوى قوة ناخبة في الدائرة، وكتلة شبه متراصة لم تخترقها أصوات المعارضة التي برزت في البقاع الأوسط. وحتى لو كان شيعة هذه المنطقة لا يعرفون عملياً نائبهم محمد نصرالله، الذي خلف أمين وهبه الفائز على لائحة تيار المستقبل في انتخابات 2009، من دون أن يتمكن من محو ما تخلف في الذاكرة عن نائب المنطقة ناصر نصرالله الذي شغل المقعد خلال مرحلة الوجود السوري.
حظوظ الفرزلي
لذا يبدو الثنائي الشيعي في هذه المنطقة مرتاحاً لتجيير أصوات كتلته الناخبة لحلفائه، وأبرزهم النائب إيلي الفرزلي العائد إلى ساحة النجمة في انتخابات 2018، وحتى بعد انفصاله عن تكتل لبنان القوي العوني الذي ترشح بإسمه حينذاك.
لكن الفرزلي يعلم جيداً أن حيثيته الانتخابية في هذه المنطقة فقدت فاعليتها بموجب القانون الانتخابي الحالي. وخلافاً لـ"محاسن" القانون الذي يقال أنه سمح بوصول النواب المسيحيين بأصوات المسيحيين، فإن الفرزلي لا يمكن أن يكون نائباً إلا بحواصل حلفائه. وحظوظه بحجز مقعده في الانتخابات المقبلة تبدو وافرة، خصوصاً أن الخصوم غير واضحين في تحالفاتهم.
أبو فاعور الدرزي
ومثل "البلوك الشيعي" يشكل دروز الدائرة كتلة متراصة بحجم أصغر. ورغم أن القاعدة الدرزية خرقتها بعض الأصوات المعارضة، فما زالت بجزء كبير منها كتلة وفية للتقدمي الاشتراكي، الذي فرض وائل أبو فاعور لاعباً سياسياً أساسياً. فهو نجح في مقارعة آل الداود وقضى على طموحاتهم باستعادة المقعد الدرزي، بعد نيله في الانتخابات الماضية أعلى نسبة أصوات تفضيلية في لائحة تحالف الاشتراكي مع المستقبل. وقد عكس تصويت الشارع السني ميلاً إلى خطاب الاشتراكي في المنطقة آنذاك.
والحيثية الوجودية للتقدمي الاشتراكي يعززها منطق المتابعة الحثيثة التي يوليها الحزب لشؤون طائفته أينما وجدوا في لبنان وخارجه، بذريعة "شبكة الأمان" التي يحاول التقدمي توفيرها لطائفته كـ"قومية" موازية للانتماء الوطني، وأقحمت اشتراكيي الدائرة أحيانا في تداعيات المعارك العابرة للحدود، وفرضت على الحزب التناغم مع جمهوره المتحمس للنزول الى الشارع في مواجهة السلطة.
لكن الاشتراكي مهما بلغت قوته المتراصة، لا يمكنه أن يؤمن الحواصل منفرداً، من دون تحالفات متينة في الدائرة. لذا يشكل تضعضع جبهته السياسية مع الحلفاء نقطة ضعفه الأساسية في هذه الدائرة.
وضوح أرثوذكسي وغموض ماروني
مسيحياً، يقابل وضوح مستقبل المقعد الأرثوذكسي المعقود ربما لإلياس الفرزلي في الدائرة، غموض مصير المقعد الماروني، الذي حجزه مدة طويلة النائب الراحل روبير غانم. لكن خلفه هنري شديد لم ينجح في ملئه بالشكل اللازم، فتبدد حضوره فور وصوله إلى البرلمان، رغم الطموحات القوية التي أظهرها إبان الوجود السوري للوصول الى سدة البرلمان.
وغياب شديد الواضح عن الساحة البقاعية، شكل سبباً إضافياً لخسارة المستقبل الذي تحالف معه في هذه المنطقة، بعدما وجد فيه فرصة لزيادة حواصله من الكتلة الناخبة غير السنية، علماً أن شديد نال العدد الأدنى من أصوات الفائزين في لائحته خلال انتخابات 2018.
وتظهر المعركة المسيحية على المقعد الماروني في الدائرة، عدم قدرة أي من الأحزاب المسيحية وحدها على تأمين الحواصل الكفيلة بإيصال نائب ماروني باسمها. لذا يقترن مصير هذا المقعد بالتحالفات التي يعقدها كل طرف، وإن بدت القوات اللبنانية أكثر قدرة عى فرض شروطها في الدائرة، نتيجة أخطاء العهد العوني وطاقمه السياسي.
لذا يبدو وصول الفرزلي مجدداً إلى البرلمان محسوماً بسبب تحالفه مع الكتلة الشيعية. وهذا ما يجعل المعركة مارونية. وتبدو القوات قادرة على تجيير أصوات سنية لها، بما يشبه ما حصل مع النائب وائل أبو فاعور خلال انتخابات 2018. فشريحة سنية تجد اليوم في القوات بديلاً عن تيار المستقبل الضائع انتخابياً، من دون أن يكون أحد قادراً على ضمان ذهاب أصوات تفضيلية سنية لمرشح ماروني متى اتخذت المعركة منحى المواجهة المباشرة بين تيار المستقبل وخصومه في المنطقة.
احتمال مقاطعة كبيرة
باختصار، تبدو المعركة في البقاع الغربي بلا تغييرات تذكر، بين القديم والأقدم. من دون أن تنجح "الثورة" وحراكها في وضع أصبعها على جرح الواقع السيء الذي يرزح تحته لبنان، لإحداث خرق ولو بسيط في طريقة تصويت اللبنانيين.
وهذا ما يعزز توجه شطر كبير من ناخبي الدائرة إلى مقاطعة الانتخابات، التي يتوقع أن تتحول إلى استفتاء مباشر للقدرات التجييرية لدى كل من لاعبيها السياسيين الحاليين.