المشاركة الأولى للكتائب في الانتخابات النيابية
كتب د. مارك م. أبو عبدالله - باحث في تاريخ الانتخابات النيابية:
في ١١ كانون الثاني ١٩٤٥ توفي وزير الخارجية سليم تقلا، وبذلك شغر مقعد نيابي في محافظة جبل لبنان، التي كانت تشكّل دائرة انتخابية واحدة. فتقرر اجراء انتخابات فرعية في ٤ اذار ١٩٤٥. فترشّح شقيق الوزير سليم تقلا، فيليب تقلا. ولكن انظار البعض اتجهت نحو الكتائب لترشح احد افرادها، فوافق الشيخ بيار الجميل على ترشيح الياس ربابي، رئيس مصلحة الأقاليم ومدير جريدة العمل.
رأت الكتائب في هذه الانتخابات فرصة سانحة للدفاع عن آرائها داخل المجلس النيابي في الظروف الدقيقة التي كان يمر بها لبنان والعالم في تلك الفترة. واصدر بيار الجميل بيانًا حول مشاركة الكتائب في هذه الانتخابات، ومما جاء فيه: "تخطو الكتائب اللبنانية هذه الخطوة الجديدة على أساس مبادئها المعروفة والموجزة في شعار واحد: شعب سعيد في وطن حر، واثقة بان اللبنانيين الذين ماشوها وبايعوها بالولاء والتأييد في شتى مواقفها واعمالها يشدون ازرها اليوم وغدًا، مثلهم بالأمس، ففي نصرتها نصرة المثل اللبناني الأعلى وفي فوزها فوز للفكرة اللبنانية. تنزل الكتائب الى ميدان الانتخاب بطابعها الكتائبي الصريح ومنهاجها الكتائبي الانشائي، متحفظ اشدّ التحفظ أزاء النظام السياسي القائم ورأيها فيه، آملة ان تجتمع كل العناصر الطيبة والمخلصة حولها، على صعيد احترام المبدأ وخدمة العقيدة، مناشدة الأنصار والأصدقاء والمؤدين ان يعملوا على ضوء المبدأ والعقيدة في معزل عن مشادات المشايعات الحزبية الشخصية والمحلية: فالكتائب اللبنانية لشعب كامل هو الشعب اللبناني ولوطن واحد هو لبنان الخالد، صاحب الرسالة الإنسانية النبيلة". وتجدر الإشارة الى ان مشاركة الكتائب في هذه الانتخابات اعتبرت الخطوة المهمة نحو تحول الكتائب من مجرد منظمة وطنية الى حركة سياسية تسعى الى تجديد النظام وبناء دولة الاستقلال. إلا ان التحول من منظمة الكتائب اللبنانية الى حزب سياسي اخذ بضعة سنين اتسمت بالنقاشات الفكرية والسياسية حول ما يجب ان تكون عليه عقيدة الكتائب ودورها في السياسة والمجتمع.
لم يُحالف الحظ مرشح الكتائب، الياس ربابي، فقد نجح في تلك الانتخابات مرشح السلطة فيليب تقلا. ويعود ذلك الى مجموعة عوامل منها أن الكتائب كانت في مواجهة الحكومة وادواتها، والذين تدخلوا وبصورة علانية في تلك الانتخابات. وقد وجه في هذا الاطار بيار الجميل كتاب استنكار الى وزير الداخلية قال فيه: "كان عمال الحكومة من ذوي العلاقة يتدخلون علانية وبكل قحة في شؤون الانتهاب، وبعد ان مهد البعض منهم للعمل، بالطواف على المناطق والتهويل باسم الحكومة لتأييد مرشح معين، تمادى البعض الاخر منذ الصباح في المداخلة تماديًا شائنًا فاضحًا". وكتبت جريدة العمل آنذاك مقالاً بركانيًا تحت عنوان "لطخة عار على جبين الحكومة" اتهمت فيه المسؤولين بالتآمر على سلامة الانتخاب وحريته. ويبدو ان عدم وقوف الحكومة على الحياد عائد على الأرجح الى تدخل من قبل رئيس الجمهورية بشارة الخوري، وذلك بسبب انتماء الياس ربابي سابقًا الى الكتلة الوطنية، وهو ما كان قد أشار اليه قبل حملته الانتخابية بذكره انه من منشأ اميل اده وانه سيتتبع سياسة هذا الأخير. ومن العوامل المساعدة في خسارة مرشح الكتائب هو الطابع العائلي المسيطر على خيارات الناخبين، الذين اقترع العدد الكبير منهم لفيليب تقلا لمجرد كونه شقيق النائب المتوفي، سليم تقلا.
وفي قراءة سريعة للأرقام التي حصل عليه مرشح الكتائب في قضاء المتن، لا بد من الإشارة الى انها كانت نسبيًا مرتفعة، إذ حصل على ٢٦٢٠، أي ما نسبته ٤١،٤٥٪ من مجمل عدد الناخبين في قضاء المتن، الذي كان جزءً من دائرة محافظة جبل لبنان. اما في ما يتعلق بمنطقة الساحل في المتن، يبدو ان المقترعين الأرمن صوتوا تقريبًا لكلا المرشحين. وفي هذه الانتخابات الفرعية، أظهرت بلدة سن الفيل ولائها المطلق لحزب الكتائب. أما من البلدات التي لم توال الكتائب كانت بلدة انطلياس. أما في ما يتعلق بمنطقة وسط المتن، حصدت الكتائب اغلبية الأصوات، إلا أن هناك ثلاث بلدات كان فيها الحضور الكتائبي ضعيفًا وهي بلدات برمانا وبعبدات وبيت شباب. اما في منطقة أعالي المتن، حيث تركيبة المجتمع ريفية، فقد سجل الحضور الكتائبي في هذه الانتخابات ضعفًا شديدًا، باستثناء بلدة كفرعقاب.
وتعود تلك الأرقام المشجعة للمرشح الكتائبي في محافظة جبل لبنان، ومنها وبطبيعة الحال قضاء المتن، الى عدة عوامل من بينها الدعم الذي لقيه مرشح الكتائب من حزب الكتلة الوطنية، كما وايضًا الى توسع انتشار الكتائب خاصةً في محافظة جبل لبنان. ويعزو الدكتور جان شرف هذا النمو الى الأيام الكتائبية والمهرجانات التي كانت تقيمها الكتائب في المناطق المختلفة والتي كانت تنجح من خلالها في استقطاب الناس. ومن الأسباب التي أدت الى تزايد شعبية الكتائب في محافظة جبل لبنان هو الموقف السياسي للحزب الذي فضّل رئيسه، الشيخ بيار الجميل، البقاء في صف المعارضة والرقابة الشعبية للوزراء والحكام. وما معارضة الكتائب، ووفق رئيسها الأعلى، سوى لحراسة المصلحة العامة وليس للوصول الى المناصب. ومن الأسباب ايضًا تناول حزب الكتائب الاقتراحات العملية لتوطيد دولة الاستقلال واعطائها الابعاد السياسية والاجتماعية التي تضمن وحدة اللبنانيين، ومن بين هذه الاقتراحات المطالبة بإلغاء المادة ٩٥ من الدستور والتي تنصّ على التمثيل الطائفي حتى في المجلس النيابي، المطالبة بالعمل على تطوير النظام في اتجاه تعزيز دور الشعب في صناعة القرار السياسي. ومن بين اقتراحات حزب الكتائب العملية كانت العمل على تعزيز روح العدالة الاجتماعية، تبني مطالب العمال الاجتماعية، الخ. هذا بالإضافة الى مشاركة حزب الكتائب في صياغة قانون العمل. هذا بالإضافة الى المطالبة بجعل لبنان ٥٥ دائرة انتخابية، خاصة وانه معلوم انه كلما صغرت الدائرة تحسّن التمثيل وزادت الوحدة الوطنية بإضعاف الزعماء وتغيّر دفة القيادة، وعلى الأرجح هذا ما كانت تبتغيه الكتائب كقوة صاعدة وقتذاك في وجه الطبقة السياسية التقليدية.
كانت هذه الانتخابات الفرعية اختبارًا سياسيًا لحزب الكتائب، إذ شكّلت الاصوات التي نالها المرشح الياس ربابي قوة متماسكة ومتناسقة أهلّت الكتائب لخوض الانتخابات النيابية المقبلة، كما كانت دافعًا اساسيًا لتحول منظمة الكتائب الى حزب سياسي سيدخل المعترك الانتخابي. وبهذا التحول شهدت الكتائب، ووفق المؤرخ جان شرف، "عملية تجديد أولى" انتهت عام ١٩٤٧، وهدفت الى توسيع الانتشار الكتائبي وتعميم العقيدة وترسيخ الانضباط ومضاعفة الرصيد الشعبي.