المشاركة الكتائبية في انتخابات ١٩٥٧ النيابية
عن المشاركة الكتائبية في انتخابات ١٩٥٧ النيابية، كتب الباحث في تاريخ الانتخابات النيابية د. مارك م. أبو عبدالله :
حوّل كميل شمعون هذه الانتخابات الى نوع من الاستفتاء حول سياسته الخارجية. فلم يكرر الأخطاء التي مارسها سلفه بشارة الخوري، ولكنه أقرّ تقسيمًا للدوائر الانتخابية لا يتوافق مع مصالح المعارضة، او ما يعرف في اللغة الإنكليزية بمفهوم Gerrymandering. أشرف على هذه الانتخابات حكومة برئاسة سامي الصلح، والتي حددت في ٧ أيار ١٩٥٧، تاريخ العملية الانتخابية بين ٩ و٢٣ حزيران ١٩٥٧.
ترشّح في الدائرة الرابعة، المتن، مقعدان للموارنة ومقعد للأرثوذكس، ترشح فيها ١٧ مارونيًا و٣ ارثوذكس. أما في الدائرة الخامسة، برج حمود، والتي كانت تضم الجديدة، السد، البوشرية، سن الفيل والدكوانة، مقعد واحد للأرمن الأرثوذكس، ترشح اليه كل من ديكران توسباط ونوبار نوكوزيان. في ٢٢ أيار ١٩٥٧ اعلن الياس ربابي باسم الشيخ بيار الجميل مرشحي الكتائب وهم: جوزيف شادر عن مقعد الأرمن الكاثوليك في الدائرة الثانية في بيروت، جان سكان عن مقعد الروم الكاثوليك في زحلة، موريس الجميل وعبدو صعب عن المقعدين المارونيين في المتن، ووليم حاوي عن مقعد الروم الأرثوذكس في الدائرة الأولى في بيروت. وتجدر الإشارة الى انه، وقبل اقفال باب الترشيحات، انسحب المرشح عبدو صعب.
من المرجح ان يكون ارتفاع عدد المرشحين الكتائبيين في هذه الانتخابات نابع من ثقة الكتائب ان شعبيتها في تصاعد، خاصةً مع ازدياد حفلات قسم اليمين للكتائبيين والكتائبيات الجدد في البيت المركزي وفي الأقاليم. ويعود سبب تنامي قوة الكتائب في مكان ما الى الدور الذي كانت بعض الشخصيات الكتائبية تلعبه على الصعيد الثقافي في لبنان، وذلك من خلال مشاركتها في محاضرات الندوة اللبنانية. ونذكر هنا محاضرة بيار الجميل في ٢٥ أيار ١٩٥٠ والتي تحدث فيها عن أهمية كرامة الشخص الإنسانية وعن علمانية الدولة، ومحاضرات موريس الجميل والتي طرح في بعضها مشاريع إنمائية وفي بعضها الاخر أفكار تتعلق بتطوير النظام السياسي في لبنان، ومحاضرات جوزيف شادر والتي من أهمها تلك التي تحدث فيها عن أهمية ثروات لبنان الطبيعية، وعن الديمقراطية وعن ضرورة انشاء نفق يربط بيروت بالبقاع.
لذلك كان هدف الكتائب الأساسي من المشاركة في هذه الانتخابات المساهمة في تطوير الحياة الاجتماعية والسياسية في لبنان. فعلى الصعيد الاجتماعي، كانت الكتائب على الأرجح من بين القوى السياسية القليلة المطالبة بالمحافظة على علمانية الدولة اللبنانية التي يتميز بها لبنان في هذا الشرق والتي تؤمن بحرية المعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية واحترامها. أما على الصعيد السياسي، فأرادت الكتائب جعل النيابة مجرد خدمة وليس مصلحة. كما اعتبرت الكتائب نفسها خارج الاصطفاف السياسي الحاصل وقتذاك بين الموالاة والمعارضة، واعتبر بيار الجميل في المهرجان الكتائبي الشعبي الكبير في مدينة الحدث ان "المعارضة اليوم هي معارضة كراسي".وفي ٢٧ أيار احتفلت الكتائب بيوم الأقاليم التاريخي، والذي كان للمرأة فيه دورًا مميزًا، وكان مناسبة مهمة استغلها الحزب للتسويق لأفكاره وبرنامجه الانتخابي، والذي ارتكز بصورة أساسية على ان "الحكم الديمقراطي لا يصلح إلا على الأساس الحزبي".
تضمن برنامج الكتائب الانتخابي تشديدًا على استقلال لبنان وتقرير المصير الداخلي والخارجي على ضوء مصلحة لبنان قبل كل شيء. وفي السياسة الداخلية، أرادت الكتائب التمسك بوضع تصميم عام لثروات لبنان الطبيعية والإنسانية، بهدف توزيعها بشكل عادل على سائر المواطنين. كما جرى تشديد في البرنامج الانتخابي الكتائبي على التمسك بعقيدة العمل ورأس المال. وضمت لائحة الكتائب في المتن كل من موريس الجميل وغبريال المر وخليل أبو جودة. وتركز خطاب موريس الجميل خلال الحملة الانتخابية على وجوب الاستفادة من إمكانات لبنان الجبّارة. وكتبت جريدة الحياة عن المرشح موريس الجميل قائلةً: "والواقع ان ترشيح موريس الجميل يكتسب التأييد بوصفه مرشحًا ذا برنامج انمائي، عمراني في لبنان عامة ودائرة المتن خاصة. وماضيه ناصع وافكاره التي كانوا يعتبرونها خيالية أصبحت واقعية. ومثل هذه الدعاية رأس مال حسن لموريس". أما في ما يتعلق بتموضع الكتائب السياسي، فهي لم تكن قريبة من المعارضة التي كانت تدور في فلك الرئيس السابق للجمهورية بشارة الخوري. ولكنها في المقابل، لم تكن الكتائب بعيدة كثيرًا عن الموالاة في تلك الانتخابات، إذ ضمت لائحة رئيس الحكومة، سامي الصلح، بين أعضائها، المرشح الكتائبي جوزيف شادر.
في دائرة المتن، حاول بداية غبريال المر تأليف لائحة مع سليم لحود، إلا ان خلافهما حول المرشح الماروني الثاني، حال دون توافقهما. إذ رغب غبريال المر ضم خليل أبو جودة الى اللائحة كونه من منطقة ساحل المتن، إلا ان سليم لحود عارض ذلك بشدة، كما عارض انضمام موريس الجميل الى اللائحة المزمع تشكيلها. وقد تأخرت نسبيًا عملية تشكيل اللوائح في المتن، حيث أراد القيّمون عليها مجاراة الحزب القومي الذي كان يؤلف وقتذاك قوة كبيرة في هذه الدائرة. ولكن بعد الحديث عن تحالف بين مرشح القوميين اسد الأشقر مع سليم لحود والبير مخيبر، ما كان من غبريال المر إلا ان شكّل ومع خليل ابوجودة وموريس الجميل لائحتهم، في حين تشكّلت اللائحة الثانية المنافسة من سليم لحود، اسد الأشقر والبير مخيبر.
يمكن وصف هذه الانتخابات بانها احدى اهم المعارك السياسية بين الرئيس كميل شمعون ومعارضيه. ونظرًا لشدة المعركة والتي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالأحداث الدامية التي كانت تجري في الشرق الأوسط أكان في مصر عام ١٩٥٦ او في الأردن عام ١٩٥٧، اضف الى ذلك المخاطر الأمنية التي رافقت العملية الانتخابية والتي كانت سوريا وراء بعضها. فساهمت كل هذه الاحداث مجتمعة في تحول الرئيس كميل شمعون الى المدافع الأول والاقوى عن الكيان اللبناني، ما اكسبه شعبية لافتة ومميزة في الشارع المسيحي بصورة عامة، نظرًا لما يعني الدفاع عن الكيان اللبناني في الوجدان المسيحي من أهمية لا تعلو عليها أي أهمية أخرى. ولكن وعلى الرغم من الأثر الكبير الذي تركه العدوان الثلاثي على مصر بين تشرين الأول ١٩٥٦ واذار ١٩٥٧ على مجريات الاحداث الداخلية في لبنان، إلا ان التنافس الانتخابي ظل قائمًا بصورة أساسية على معطيات شخصية ومصالح ضيقة، لأنه وبكل بساطة لم يكن هناك إلا تنافس محلي مبني على صراعات مذهبية وحزبية.
كان لكل هذه العوامل مجتمعة دورًا في تحديد مسار ونتائج العملية الانتخابية. إذ بداية كان لافتًا رسوب ابن رئيس الحكومة، سامي الصلح، عبد الرحمن الصلح، في البقاع. بالرغم من العلاقة الوطيدة بين رئيس الجمهورية، كميل شمعون، ورئيس الحكومة، سامي الصلح. وفي مجال اخر، أدت نتائج هذه الانتخابات الى خروج العديد من قيادات الصف الأول خاسرين من تلك المعركة، ومن اهمها كمال جنبلاط، احد ابرز معارضي الرئيس شمعون، والشيخ بيار الجميل، في المتن تحديدًا، الذي اخذ موقفًا الى حد ما محايدًا في الصراع بين شمعون ومعارضيه. في المقابل سمحت ظروف المعركة في دائرة المتن، ولأول مرة، بوصول مرشح الحزب القومي، اسد الأشقر، الى الندوة البرلمانية. اما في ما يتعلق بمرشحي الكتائب، فلم يفز منهم الا جوزيف شادر عن مقعد الأرمن الكاثوليك في الدائرة الثانية في بيروت، حيث حصل على ١٦٦٧٠ من اصل عدد المقترعين. ويعود على الأرجح ذلك، الى اشتداد المعركة الانتخابية في اكثر من دائرة، خاصة في بيروت وجبل لبنان، بين كميل شمعون ومعارضيه، خاصة الموارنة منهم. ولم تكن الكتائب تملك الوسائل الضرورية وقتذاك للخروج منتصرة من هذه المعركة.