المعارضة والانتخابات الفرعية عام ١٩٤٨
كتب الباحث في تاريخ الانتخابات النيابية د. مارك م. أبو عبدالله:
شهد قضاء المتن، ومنذ الاستقلال عام ١٩٤٣، ست دورات انتخابية فرعية، ثلاثة منها في أعوام ١٩٤٥، ١٩٤٨ و١٩٥٤ عندما كان قضاء المتن جزءً من دائرة محافظة جبل لبنان، وثلاثة في أعوام ١٩٧٠، ٢٠٠٢ و٢٠٠٧. إلا ان أهمية دورة ١٩٤٨في تشابه ظروفها السياسية مع الظروف الحالية، وبالتالي مع ظروف دورة ٢٠٢١ الفرعية ان حصلت.
شكّلت دورة ١٩٤٨ الفرعية المرحلة الثانية لانتخابات ١٩٤٧ العامة والتي تُعتبر من اكثر الدورات الانتخابية تزويرًا في تاريخ الانتخابات النيابية في لبنان. أراد الرئيس بشارة الخوري من وراء هذه الانتخابات الاتيان الى المجلس النيابي بغالبية من النواب الذين يدينون بالولاء له بهدف التجديد له لولاية رئاسية ثانية. طرح بشارة الخوري على الإنكليز هذه الفكرة متسلّحًا بدعم مميز من المسلمين السنّة في لبنان، وبقبول مبدئي عربي به، ولا سيما في مصر. إلا ان الإنكليز آثروا انتظار نتائج الانتخابات النيابية. وبالتالي، ما ان بدأت سنة ١٩٤٧، حتى تبيّن للجميع ان الرئيس بشارة الخوري ينوي تعديل الدستور ليتمكّم من تجديد ولايته. وفي ٨ نيسان ١٩٤٧ أصدرت الحكومة مرسومًا رقمه ك/٨٦٨٥ يقضي بحلّ مجلس النواب ودعوة الهيئات الناخبة الى انتخاب أعضاء المجلس النيابي في ٢٥ أيار.
حاول كمال جنبلاط تأليف جبهة معارضة تضم الى جانبه كل من بيار الجميل وكميل شمعون. إلا ان محاولة جنبلاط هذه لم يُكتب لها النجاح. ففي حين ان هنري فرعون لم يوافق على ادخال المرشح الكتائبي الياس ربابي في لائحة المعارضة في بيروت، تمسّك كميل شمعون بجورج معاصري. وقد اطلق يوم ذاك شمعون على الياس ربابي "المرشح الخطر" ومع كل هذا بقي كمال جنبلاط على موقفه من اتفاقه مع الكتائب، واعلن انه سينسحب من بازار الانتخابات، أذا لم يكن هو والكتائب. ولكن في النهاية انسحبت الكتائب، لأنها رفضت منح اللائحة وجهًا حكوميًا ولونًا من حزبية معينة، نظرًا لأن شمعون وجنبلاط كانا في اكثر من مرة وزراء في عدة حكومات، وكانت الكتائب قد أظهرت معارضة شديدة تجاه حكم الرئيس بشارة الخوري. إذ لم توفر الكتائب مناسبة إلا وانتقدت فيها السلطة السياسية. لذلك قررت الكتائب خوض الانتخابات مستقلة. وفي مجال آخر، لمس كميل شمعون أنه لا يمكن أن يكون "رقمًا" عاديًا في رصيد بشارة الخوري، وأنه قادر على تكوين زعامة شعبية واسعة في جبل لبنان، مستفيدًا أيضًا من زعامة كمال جنبلاط "الشوفية" الذي كان حاقدًا على الميثاق الوطني لأنه همّش دور الطائفة الدرزية، بعد الاعتماد على الثنائية المارونية-السنّية.
اتفق كميل شمعون وكمال جنبلاط على لائحة دستورية ائتلافية في جبل لبنان، ولكنه جرى اقصاء ثلاثة دستوريون منها هم اميل لحود وبهيج تقي الدين وسليم الخوري شقيق رئيس الجمهورية، وادخل عليها عناصر غير دستورية، وقد جرى ذلك بالرغم من معارضة رئيس الجمهورية بشارة الخوري، الذي عاد ووافق على تلك اللائحة على مضض. من جهة أخرى، قام شقيق رئيس الجمهورية، سليم الخوري، الملقب بالسلطان سليم، بتشكيل لائحته الخاصة وغير المكتملة. كما وأعلنت الكتلة الوطنية لائحتها. ومثّل في تلك الانتخابات المتن الشمالي اكثر من مرشح. وهكذا تنافست في دائرة محافظة جبل لبنان أربع لوائح، منها كاملة وهي لائحة الكتلة الدستورية، وثلاث لوائح غير مكتملة، وهي لوائح سليم الخوري، والكتلة الوطنية (القائمة الادية)، والكتائب.
قبل اعلان النتائج رسميًا، وقد اعلنها الواقع، قامت الاحتجاجات، ومن أهمها من قبل البطريرك الماروني وعدد من المطارنة، والرهبانيات الكاثوليكية والمارونية على اختلافها. وتجلّت تلك الاحتجاجات من خلال مقاطعة الدورة الثانية التي اقتصرت اعمالها على مبارزة بين بعض لائحتي كميل شمعون وسليم الخوري. فكان اول المطالبين بإلغاء هذه الانتخابات اتحاد النساء. ووجهت الاتهامات بالتزوير الى محافظ جبل لبنان حسين الجسر، و قائمقام كسروان بديع صالح. كما احتج على هذه الانتخابات عدد من الأحزاب، ومن بينها الكتائب، والنداء القومي، والغساسنة، والشيوعيون، والقوميون، وهيئات السيدات اللبنانيات في زحلة. تعزيزًا لاحتجاجات المعارضة وضعت الكتلة الوطنية كتابًا بعنوان "جريمة ٢٥ أيار". وطالب حزب الكتائب رئيس الجمهورية بحلّ المجلس وتأليف حكومة حيادية لأجراء انتخابات نزيهة. كما دفعت هذه الاحتجاجات وزير المالية كميل شمعون الى الاستقالة بالتكافل والتضامن مع كمال جنبلاط من الحكومة معترفًا بذلك بعمليات التزوير. يمكن القول ان هذه الانتخابات شكّلت محاكمة ميدانية لخصوم العهد. أراد بشارة الخوري من خلالها التنكيل بخصومه لأبعادهم عن النيابة. وابلغ دليل على عمليات التزوير كان ارتفاع نسبة الاقتراع في محافظة جبل لبنان بين انتخابات ١٩٤٣ من ٥٢٫٩٪ الى ٦٤٪ في انتخابات ١٩٤٧، إذ أكد تقرير لجنة الطعون القيام بزيادة أوراق الاقتراع في اكثر من قلم.
في ١٤ اب ١٩٤٨، توفي نائب كسروان فريد الخازن. وفي ٣١ اب ١٩٤٨ استقال شقيق رئيس الجمهورية سليم الخوري من المجلس النيابي، تحت ضغط شعبي وفي محاولة منه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من عهد شقيقه. فقد لعب سليم الخوري، وعلى حساب القوانين والدستور، دورًا سياسيًا متقدمًا، وتحول منزله في فرن الشباك مركزًا موازيًا للقصر الرئاسي حيث تُتخذ فيه القرارات الرئيسية وتُحلّ فيه المسائل المهمة. ويذكر، على صعيد المثال لا الحصر، رئيس الوزراء سامي الصلح في مذكراته انه في أوائل العام ١٩٥٢ كان سليم الخوري ناقمًا على حكومة عبدالله اليافي، فدخل الخوري في مفاوضات مع سامي الصلح في محاولة لإقناعه لتسلم زمام الحكم فقبل وقتذاك الصلح.
بتاريخ ٣ أيلول ١٩٤٨، اصدر الرئيس بشارة الخوري مرسومًا دعا فيه الهيئات الناخبة في دائرة محافظة جبل لبنان الى الاقتراع في انتخابات فرعية على مقعدي الخازن والخوري. رفضت المعارضة المكوّنة وقتذاك من الكتلة الوطنية وكميل شمعون وبيار الجميل وكسروان الخازن المشاركة في تلك الانتخابات ومقاطعتها لأن المشاركة فيها يتناقض مع مطلبهم، الداعي الى حلّ مجلس ٢٥ أيار ١٩٤٧ والدعوة الى انتخابات جديدة في كل لبنان بإشراف حكومة محايدة، إذ وبحسب المعارضة، فإن النواب الذين وصلوا الى الندوة البرلمانية في انتخابات ١٩٤٧ لم يمثلوا الشعب تمثيلاً صحيحًا.
لم يترشح إلا اثنان هما اميل لحود عن المتن، الذي كان قد استبعد من قبل كميل شمعون عن اللائحة الدستورية في الانتخابات العامة ١٩٤٧، والشيخ سليم الخازن عن كسروان، ولم يعد هناك من انتخابات بل تعيين. وعلى الرغم من ذلك، شهدت تلك الانتخابات عمليات تزوير واسعة، أذ أعلنت وزارة الداخلية ان عدد المقترعين في جبل لبنان بلغ ٤٩ الف في حين ان العدد الأصلي لم يتخطّ ال١٠ مقترع. وقد ظهرت فضيحة التزوير من خلال اعلان وزارة الداخلية حصول اميل لحود على ٤٩٤٧٤ صوتًا وسليم الخازن على ٤٨٨٢٣ صوتًا، هذا وبالرغم من المقاطعة الكبيرة التي شهدتها تلك الانتخابات بدعوة من المعارضة. حتى ان الرئيس بشارة الخوري اعترف بذلك في مذكراته قائلاً: "ظهر في الصناديق أوراق تزيد على عدد المقترعين الحقيقيين".
ان الدعوة اليوم الى تقصير ولاية المجلس الحالي والدعوة الى انتخابات نيابية هي اسمى صورة من صور الديمقراطية. فجميع المجتمعات المتطورة تطلب، في الازمات والملمات، كما هو حاصل اليوم في لبنان، الاحتكام الى الشعب بانتخاب ممثلين له يعبّرون عن اتجاهاته وتطلعاته، خاصةً وان المجلس النيابي الحالي فقد شرعيته، التي سحبها منه الشعب بعد ثورة ١٧ تشرين، كما انه اضحى مجلسًا يفتقد للتمثيل الشعبي الصحيح في ظل غياب عشرة نواب عنه، ثلاث منهم من دائرة المتن الشمالي.