انتخابات «القطبة المخفية»
كتب جوني منيّر في الجمهورية:
وهنا قد لا يكون هنالك من فرق بين الأفق الاقليمي والصورة اللبنانية الداخلية. فعدا انّ الترابط قائم، الّا أنّ اعادة رسم الخارطة السياسية للشرق الاوسط، والتي ستشمل الساحة اللبنانية، لم يعد بعيداً مع الرسائل الإيجابية التي تطلقها ايران على لسان رئيسها الآتي من الجناح المتشدّد، انسجاماً مع المؤشرات المرنة التي تبعث بها واشنطن في اتجاه طهران حول فك الحصار المالي عن الاقتصاد الايراني.
واقتراب أفق العودة الى العمل بالاتفاق النووي لا بدّ ان يكون قد واكبته ولا تزال ربما، مفاوضات سرية بين البلدين، يُرجح انّه من خلال سلطنة عمان. وشكّلت المواقف السياسية والتصريحات المعلنة، والتي غلب على معظمها التشاؤم والتشنج، ستاراً دخانياً حاجباً، جعل العديد من المراقبين يخطئون في التقدير ويذهبون في توقعاتهم باتجاه المواجهات العسكرية وربما الحروب احياناً، بعد اعلان فشل المفاوضات. لكن الواقعية تقتضي الإقرار أيضاً انّ لعبة استهلاك الوقت لحرق الأعصاب، والتي يتقنها المفاوض الايراني وينفّذها ببراعة، استوجبت في المرحلة الاخيرة خطوات ضغط اميركية معاكسة للحدّ من لعبة كسب الوقت وعلكه.
وظهرت هذه الضغوط في العراق او الحديقة الخلفية لإيران، مع انتعاش الخط الشيعي العربي المستقل عن ايران، كي لا نقول المتنافس معه. وفي المقابل حصلت استهدافات أمنية ضد الاميركيين. وفي اليمن تصاعد مسار إطباق البحرية الاميركية على شحنات الاسلحة الايرانية المتوجّهة بحراً عبر سفن مموهة الى الحوثيين، في وقت استعادت فيه القوات اليمنية المتحالفة مع السعودية زمام المبادرة العسكرية في الميدان. وقيل انّ الفضل يعود للمساعدة الاميركية من خلال الأقمار الصناعية.
وفي سوريا اندفعت اسرائيل اكثر في استهدافات نوعية طالت حاويات في مرفأ اللاذقية في ظل صمت مطبق من القيادة الروسية.
اما في لبنان فاستمر التدهور المعيشي والنقدي مترافقاً مع انهيار متدرج للسلطة التي نشأت عقب وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية.
وجاء كل ذلك متزامناً مع رفع «حزب الله» على لسان أمينه العام، مستوى خطابه الهجومي باتجاه السعودية.
وفي الوقت نفسه، سُجّلت مواجهتان بين الجنوبيين وقوات الطوارئ الدولية، واستمرار تعطّل جلسات مجلس الوزراء.
البعض ربط كل ما سبق بالخطاب الحاد والمستجد لـ»حزب الله». فيما ذهب آخرون الى مستويات أبعد، من خلال التلميح الى وجود جناح سوري وآخر روسي يؤيّدان بشكل واضح المشروع القائم على فرض «ريجيم» على «حزب الله»، يؤدي الى إعادة انتاج حجم جديد له يتناسب ومرحلة ما بعد التسوية.
لذلك، تبدو العين مفتّحة على الاستحقاق النيابي وما سيليه من استحقاقات وفي طليعتها رئاسة الجمهورية. ومن هذه الزاوية يُفهم القرار الدولي بإجراء الانتخابات النيابية وبمغادرة الرئيس عون قصر بعبدا حال انتهاء ولاية الست سنوات.
وخلال الايام الماضية وتحديداً في السابع من الشهر الجاري، كان من المفترض ان يصل الى لبنان رئيس الوفد الاميركي للمفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية اموس هوكشتاين، حاملاً معه الجواب الاسرائيلي على اقتراح جدّي وواقعي، كان قد حمله معه من لبنان خلال زيارته الاخيرة وحاز على موافقة الاميركيين.
لكن المفاوض الاميركي أرجأ زيارته في اللحظات الاخيرة، عازياً السبب الى مخاطر انتشار كورونا. ولكن العذر الاميركي لم يكن مقنعاً. فعلى الأرجح ثمة انطباع بوجود سبب آخر قد يكون له علاقة بأنّ البرنامج الزمني لم يحن بعد، او بأنّ الردّ الاسرائيلي كان سلبياً من ضمن إثارة المتاعب من الحكومة الاسرائيلية بوجه الاميركيين، كتعبير انزعاج من المفاوضات مع ايران.
في اي حال، فإنّ التركيز هو على الانتخابات النيابية والمعاني السياسية التي ستحملها. صحيح انّ هنالك من يستمر في معزوفة التشكيك، الّا أنّ الإصرار الدولي يُنبئ بعكس ذلك. وللمشككين ثمة سؤال اساسي: أي كتلة نيابية ستتجرأ على الموافقة على التمديد للمجلس النيابي الحالي، ليس فقط بسبب العقوبات الدولية التي ستنتظرها، بل خصوصاً حيال موجة الرفض الشعبي التي ستعصف بوجهها. فحتى رئيس «التيار الوطني الحر»، اكثر الراغبين ضمناً بحصول التأجيل، لن يجرؤ على الاقتراع لصالح التمديد للمجلس النيابي. اذاً فالانتخابات حاصلة، الاّ إذا استجدّت مفاجأة امنية من الوزن الثقيل. والواقعية تفرض الإقرار ايضاً بأنّ معظم القوى متوجسة من هذه الانتخابات، فهي تبدو الاكثر غموضاً على الجميع، بعد التحولات الشعبية التي ضربت الشوارع اللبنانية منذ انتفاضة 17 تشرين ومن ثم انفجار مرفأ بيروت.
مع الإشارة الى انّ المجلس النيابي الجديد سيواكب مرحلة ما بعد عودة العمل بالاتفاق النووي الايراني، وهو سيشكّل ركيزة السلطة السياسية الجديدة في لبنان في مرحلة إعادة رسم الخارطة السياسية في الشرق الاوسط. والقلق على الساحة المسيحية مبرر، بسبب إعادة رسم أحجام القوى والاحزاب قبل اشهر معدودة من الاستحقاق الرئاسي. ولا شك انّ سقوط طعن «التيار الوطني الحر» في المجلس الدستوري شكّل ضربة قوية ضاعفت من مصاعبه الانتخابية. فعلى سبيل المثال، ووفق اكثر من ماكينة انتخابية، فإنّ نسبة المغتربين المؤيّدين للتيار الوطني الحر في قضاء البترون لا تتجاوز الـ 12% فقط من نسبة كافة المسجّلين.
ومن هنا يُفهم إصرار النائب جبران باسيل على اعادة تعديل قانون الانتخابات في المجلس النيابي، بعد ردّة الفعل العنيفة التي أبداها إثر سقوط الطعن الذي تقدّم به، وذلك بهدف إسقاط اقتراع المغتربين على الدوائر الـ 15 المعمول بها. لكن، ومع اكتشاف صعوبة ذلك، يعمل باسيل على خطين: الاول من خلال طلبه من «حزب الله» العمل على إنجاز مصالحة بينه وبين سليمان فرنجية تسمح له بخوض الانتخابات ضمن لائحة موحّدة. وفي الوقت نفسه الإعلان عن استعداده لزيارة سوريا بهدف الطلب بالحصول على تأييد اصوات العلويين والمجنسين، ما سيسمح له بضمان العتبة الانتخابية.
اما الخط الثاني، فهي من خلال سعي رئيس الجمهورية الى تبريد الجبهة مع رئيس المجلس النيابي، والعمل على إيجاد طريقة ما لإقالة حاكم مصرف لبنان، ما سيشكّل انتصاراً معنوياً يمكن استثماره في الحملات الانتخابية.
وعلى الساحة السنّية غموض سببه موقف الرئيس سعد الحريري من خوض الانتخابات، في وقت يدور همس حول وجود فيتو سعودي حول هذه المشاركة. وفي موازاة ذلك يسعى بهاء الحريري لفرض نفسه وسط خطوط تواصل وتنسيق مع «القوات اللبنانية». وربما هذا ما يثير قلق الرئيس نبيه بري وايضاً وليد جنبلاط، من التحضير لاحقاً لصدام بين الساحتين السنّية والمسيحية مع الساحة الشيعية. وفيما يعمل جنبلاط على تأمين انتقال هادئ للزعامة لنجله تيمور، فهو يرصد في الوقت نفسه الخروقات الموجودة في الشارع الدرزي لصالح مجموعات القوى التغييرية ساعياً لاستيعابها.
يبقى الشارع الشيعي، حيث الهدف الدائم لـ»حزب الله» إقفال الساحة بالكامل امام أي خرق، خصوصاً بعدما ظهرت شرائح شيعية متعاطفة مع تحركات «الثورة».
الّا أنّ «حزب الله» يراهن على الخطاب «التعبوي» لـ»القوات اللبنانية» بهدف شدّ عصب شارعها، لكنه في الوقت نفسه يؤدي الى شدّ عصب الشارع الشيعي حول «حزب الله» ويغلق الفجوات الموجودة.
اشهر أربعة لا تزال تفصل عن موعد فتح الصناديق، وهي ستكون حُبلى بالاستحقاقات الاقليمية والداخلية والقطب المخفية.