انتخابات ١٩٥١ ودخول الكتائب الى المجلس النيابي
كتب الباحث في تاريخ الانتخابات النيابيةد. مارك م. أبو عبدالله:
شكّلت عملية تجديد بشارة الخوري لعهده الرئاسي في المجلس النيابي في ٢٧ أيار ١٩٤٩ عاملاً اضافيًا في زيادة النقمة على عهده، خاصةً وان معارضة العهد قد نمت بفضل تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وتفشي الفساد في إدارة الدولة.
وحتى لو لم يكن هذا التردي وهذا الفساد من نتائج سياسة بشارة الخوري ورجالات عهده، إلا ان هذا الأخير، وبدل ان يعمل على التخفيف من وطأة المصاعب الاقتصادية، حاول الاستئثار بالسلطة ما أدى الى نمو الفساد وتردي الأوضاع الاجتماعية اكثر فأكثر. كما أدى ذلك الى تعاظم دور المعارضة، ومن بينها معارضة الكتائب لحكم الرئيس بشارة الخوري، وبات الجميع ينتظر الانتخابات النيابية لإحداث تغييرات جذرية في مسار الحكم.
في صيف ١٩٥٠، صدر قانون جديد للانتخابات، وهو الأول في عهد الاستقلال. اما ابرز المواد التي تضمنها فكانت جعل أعضاء المجلس النيابي ٧٧ عضوًا (المادة ١)، واعتبار المحافظة دائرة انتخابية واحدة على أن المحافظة التي يبلغ عدد المقاعد النيابية فيها خمسة عشرة مقعدًا تقسّم الى دوائر انتخابية (المادة ٢). لذلك اضحى قضائي المتن الشمالي وبعبدا (المتن الجنوبي) دائرة انتخابية واحدة، وبلغ عدد مقاعدها تسعة: خمسة مقاعد للموارنة، ومقعد واحد لكل من الشيعة والدروز والروم الأرثوذكس والارمن الأرثوذكس. في ١٤ شباط ١٩٥١ تألفت حكومة جديدة برئاسة حسين العويني، والتي ضمت الى جانبه وزيرًا أرثوذكسيا هو بولس فياض ووزيرًا مارونيًا هو إدوار نون، لم يقم أي منهما بالترشّح للانتخابات. وانيطت بتلك الحكومة مهمة الاشراف على الانتخابات، ففي ١٥ اذار صدر المرسوم ٤٤٤١ الذي قضى بدعوة الهيئات الانتخابية لانتخاب أعضاء المجلس النيابي يوم الاحد الواقع فيه ١٥ نيسان، اما دورة الاقتراع الثانية فتجري، عند الاقتضاء، يوم الاحد في ٢٢ نيسان.
قامت الكتائب بترشيح كل من ضاهر مطر في كسروان عن احدى المقاعد المارونية، وجان سكاف، رئيس إقليم زحلة، في البقاع عن مقعد الروم الكاثوليك، والبير الحاج في عكار عن المقعد الماروني، وجوزيف شادر، نائب رئيس الحزب، في بيروت عن مقعد الأرمن الكاثوليك. وتجدر الإشارة هنا الى ان أبناء هذه الطائفة، والذين كانوا قد استقروا في بيروت قبل الحرب العالمية الأولى والابادة الأرمنية، قد اسسوا لشبكة من العلاقات الواسعة مع المسيحيين ومع الموارنة بصورة اخص وذلك على اكثر من صعيد، وهذا ما جعلهم قريبين من الكتائب وطروحاتها منذ تأسيسها عام ١٩٣٦. وشكّل ذلك احد اهم الدوافع التي ساهمت في نجاح الاتفاق الذي ابرمته الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية مع الكتائب والذي افضى الى ترشيح شادر للمقعد المحجوز الذي جرى تخصيصه للأرمن الكاثوليك قبل تلك الانتخابات.
بعد ذلك بدأ الشيخ بيار الجميل التحضير لانتخابات دائرة المتن-بعبدا، والتي خلالها أنتهج "خطة مبادئ وقيّم" انسجامًا مع التفكير الكتائبي وسياسة الحزب، بغية تخطي الصراعات التقليدية، ونعني هنا تحديدًا الصراع بين الكتلويين والدستوريين، والسير قدمًا في نهج سياسي جديد. إذ نظر الشيخ بيار الجميل الى النيابة على انها خدمة ورسالة، وما الغاية من النيابة الاّ خدمة المصلحة العامة. ويبدو ان هذا كان سبب الفشل في تأليف لائحة مشتركة مع الكتلة الوطنية، والتي أصرّ فيها الشيخ بيار الجميل على تضمينها المرشح صلاح لبكي، فلقي معارضة شديدة من قبل الكتلة الوطنية. ولكن في النهاية، آثر بيار الجميل تشكيل لائحة مستقلة، ضمت الى جانبه كل من ديكران توسباط، بهيج مزهر، عبدالله الحاج، غبريال المر، جوزيف الخوري، ميشال معوض، صلاح لبكي، وايليا أبو جوده. وكانت اغلب وجوه مرشحي تلك اللائحة جديدة، وقد وُصف بيار الجميل في تلك الانتخابات على انه مرشح الشباب الى الندوة البرلمانية. وفي السياق ذاته، حصلت اللائحة المستقلة على مباركة من البطريرك الماروني الذي أثنى على دور ومواقف الكتائب.
في هذه الانتخابات انضم مرشح حزب الطاشناق، فاهان بابزيان، الى لائحة الموالاة، مكرّسًا بهذا الانضمام العُرف القائم على تحالف الطاشناق مع الموالاة، بغض النظر ممن تتألف هذه الاخيرة من قوى وأحزاب. في المقابل، انضم منافس فاهان بابزيان ، ديكران توسباط، مرشح الجبهة الأرمنية، الى لائحة المعارضة، أي اللائحة الكتلوية، لكن سرعان ما قام هذا الأخير، وبعد مفاوضات جرت بين الجبهة الأرمنية والشيخ بيار الجميل وغبريال المر، الى الانسحاب من لائحة الكتلة الوطنية والانضمام الى اللائحة المستقلة. خلال هذه الانتخابات تشكّلت لوائح لا يجمع بين أعضائها إلا المصالح الشخصية، ولم يكن لبعضهم أي مفاهيم سياسية مشتركة، كما ان أخصام الامس اضحوا أصدقاء في تلك الانتخابات. أما في ما يتعلق بدائرة المتن-بعبدا، فتشكّلت ثلاث لوائح: لائحة الموالاة (المشكّلة بصورة أساسية من الدستوريين)، واللائحة المستقلة، ولائحة الكتلة الوطنية المعارضة. تمحور برنامج اللائحة الأولى حول دعم الحكومة وخططها وسياستها، في تمحور خطاب لائحة المعارضة حول القضاء على الفساد وإنقاذ لبنان. وكان الصراع بين الكتلويين والدستوريين في هذه الدائرة على اشدّه.
فاز مرشحو الكتائب في بيروت وعكار والبقاع في الدورة الاولى، ورسب ضاهر مطر في كسروان. ويعود هذا الانتصار الكتائبي الى مجوعة عوامل منها طريقة تعاطي الكتائب بصورة عامة مع العمل السياسي، حيث كانت ترى في الوصول الى الندوة النيابية امانة ورسالة للخدمة الوطنية العامة، دون اية مصلحة خاصة. وقد عبّر عن ذلك صراحة مرشح الكتائب في البقاع جان سكاف. ومن العناصر المساعدة في فوز مرشحي الكتائب الثلاث كان خطاب الكتائب الاجتماعي، والذي عبّر عنه اكثر من مرشح كتائبي، من بينهم جوزيف شادر الذي له في هذا المجال محاضرة في الندوة اللبنانية بعنوان "المشاريع الكبرى ورفع المستوى الاجتماعي، وله كتاب "مدخل الى الاشتراكية الليبرالية".
إلا ان بيار الجميل لم يفز من الدورة الاولى، إذ حاز على ٧٩٤٥ صوتًا، في حين حصل بيار اده على ٧٧٩٨ صوتًا. فانتقل الاثنان الى الدورة الثانية، أي ما كان يُعرف ب"البالوتاج"، لأنه كان مطلوبًا حصول كل مرشح للنجاح على ٩١٦٢. كان بيار اده مدعومًا من الحزب القومي السوري، ومن الحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة كمال جنبلاط، الذي كان له بعض المناصرين في عدة بلدات في قضاء المتن. بعد محادثات بين الياس ربابي وطانيوس سابا وكميل شمعون، تمّ الاتفاق على سحب أده مقابل سحب الدستوريون مرشحهم خليل أبو جوده. إلا انه لم ينفذ الوعد بعد انسحاب المرشح الدستوري. بل اتُهمت الكتائب بالانحياز الى جبهة الموالين. إلا ان هذا الاتهام بُني على بعض المعطيات من بينها قيام عدد النواب الموالين، ومن بينهم هنري فرعون وصبري حماده، بالإشهار بدعمهم للشيخ بيار الجميل. كما قام انصار الحكومة بمسيرة سيّارة عشية الانتخابات حملوا فيها صورًا للشيخ بيار الجميل الى جانب صور للشيخ سليم الخوري، شقيق رئيس الجمهورية بشارة الخوري. وكان ذلك، ووفق جريدة النهار، كافيًا لإقناع المتنيين ان الشيخ بيار الجميل هو المرشح الرسمي. ومن المرجح ان لجوء الموالاة الى تبني ترشيح بيار الجميل ودعمه في الدورة الثانية هدف الى تحقيق امرين: الأول اضعاف المعارضة عبر الحيلولة دون التحاق الشيخ بيار الجميل بالكامل بالمعارضة، والثاني وتصوير المعارضة وكأنها موجهة ضد رئيس الجمهورية الماروني وقد ساعدت مكانة الكتائب في الوجدان المسيحي من تحقيق ذلك الهدف.
ولكن سرعان ما تبيّن، وبسبب عشرات الألوف من الليرات التي استخدمت لرشوة الناخبين، وبسبب وقوف فريق من الموظفين لشراء الأصوات والعجائب والمدهشات، وبسبب وجود برج الفساد والمتاجرات في برج حمود، ان معركة المتن اتخذت طابع التحدي بين العهد والمعارضة وإنما على حساب مرشح الكتائب، بيار الجميل. وحسم الامر عاملان: الاول، المال الذي بعثر أصوات الدستوريين ومؤيدي لائحة الجميل في الدورة الأولى، وكسب أصوات الحياديين خاصة في برج حمود. والعامل الثاني كان تكتل القوميين الى جانب المعارضة، وقد خيّل اليهم ان انتخابات المتن هي معركة الثأر من الكتائب. في المحصلة فاز المرشح بيار اده الذي حصل على ٩٩٠٨، في حين حصل بيار الجميل على ٩٧٥٩، اي بفارق ضئيل جدًا، ١٤٩ صوتًا.