انطلاقة المعركة الانتخابية
كتب ابراهيم الأمين في الأخبار:
انطلق القطار الانتخابي في لبنان. لكل فريق جدول أعماله الخاص. المداولات داخل الأحزاب حول الترشيحات تمثل بنداً رئيسياً، وسط ميل كبير لدى قواعد هذه القوى إلى تغيير كبير في المرشحين. علماً أن الصعوبات كبيرة عند البعض، من حركة أمل التي تدرس استبدال نحو نصف نوابها، إلى التيار الوطني الحر الذي ينتظر نتائج الجولة الأخيرة من الدراسات للبت في ترشيحات قد تخرج نحو نصف النواب من السباق، إلى حزب الله الذي يدرس الأمر من زاوية الحاجة إلى تغيير أو الحاجة إلى برنامج جديد يفرض وجوهاً مختلفة.
الحال ليست أسهل عند الآخرين بمعزل عن قوة كل قيادة. في القوات اللبنانية انتظام لا يسمح بجدال حول من يقرّر رئيس الحزب سمير جعجع أنهم من أصحاب الحظوظ، وهو يسعى إلى توسيع دائرة المرشحين الأصدقاء على حساب الحزبيين، خصوصاً أنه يسعى إلى إعلان نحو ثلاثين مرشحاً على الأقل في كل لبنان. أما النائب السابق وليد جنبلاط فيواجه مشكلة جدية مع تطلّبات نجله النائب تيمور جنبلاط الراغب في تنويع يفرض تغييراً شاملاً ربما يستثني منه وائل أبو فاعور. علماً أن جنبلاط الأب لا يزال يسعى إلى ترتيبات تحول دون بروز مشكلات في وجهه، في ظل حالة اعتراضية من «المجتمع المدني»، تحديداً في عاليه والشوف. أما تيار المستقبل فلا يزال في انتظار قرار الرئيس سعد الحريري ليحسم أمره في بيروت وإقليم الخروب والبقاع الغربي. علماً أن الحريري لا يزال، حتى الآن، يرغب في العزوف عن خوض التيار للانتخابات، ويتعمد منع الكلام حول الانتخابات في أوساط قياداته تاركاً إياهم أسرى غموض غير بنّاء. علماً أن الجميع، في التيار ومن قوى أخرى في مقدمها القوات اللبنانية والحزب الاشتراكي، يراهنون على تدخل سعودي - أميركي، في اللحظات الأخيرة، يجبر الحريري على الانخراط إلى جانبهم في المعركة. علماً أن الحريري قد يكون أكثر من يواجه أزمة مرشحين، بعدما لمس أن غالبية أعضاء كتلته ليسوا في موقع المفيد، كما يدرك أنه سيتعرّض لمنافسة قوية من قبل «القوى التغييرية» التي تدعمها السعودية علناً في الأوساط السنية.
على ضفة «المجتمع المدني»، ليست الأمور أفضل حالاً. فالنتائج الأولية لاستطلاع سياسي قامت به السفارة الأميركية لا يبشّر بالخير. والخلافات التي تعصف بمجموعات «الثورة» لا تبدو قابلة للحل بالضغط والتهويل فقط، ولا حتى بالإغراءات المالية التي تُسوّق باسم «دعم من رجال أعمال لبنانيين في الخارج». كما أن القرار الأميركي – الأوروبي بتعويم قوى تقليدية يتقدمها حزب الكتائب وشخصيات تدور في الفلك الأميركي – الأوروبي منذ عقود، يواجه معضلة أن عدداً غير قليل من المجموعات الصغيرة التي تعادي حزب الله ترفض التحالف مع «رموز لها تاريخها الكبير في التعاقب على السلطة في لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية»، وهو كلام يشمل حزبي الكتائب والأحرار وشخصيات كميشال معوض وغيره. علماً أن الجهد الأميركي (بدعم سعودي – إماراتي) يركز على ضرورة أن تنشط هذه القوى بشكل رئيسي في الساحة المسيحية، وهناك رهان كبير على منصة «كلنا إرادة» للعب هذا الدور بعد فرط المجموعة المؤسسة لمنصة «نحو الوطن» التي بقي منها من يقاتل لخلق بدائل من نوع مختلف.
طبعاً هناك مشكلة أكبر عند حشود المرشحين المنفردين من نواب حاليين أو مستقيلين أو أصحاب طموحات ممن يعتقدون بأن «المزاج» العام يدعم فرص وصولهم إلى المجلس. لكن هؤلاء، رغم عددهم الكبير، يفتقدون إلى آليات تسمح لهم ببناء تحالفات اضطرارية للوصول إلى الحاصل المطلوب في أي انتخابات. وهذه معركة غير سهلة، وإن كان الجميع يبحث مسبقاً عن فرص مع المجموعات أو مع القوى التي تملك قدرات أو خبرات أو كميات وازنة من الأصوات.
كل ما سبق يعيدنا إلى المربع ذاته الذي يعيشه الناس عندما يكون هناك استحقاق تأليف حكومة. أي أن الجميع يتنافس على حصص ومقاعد، من دون إخبار الناس بأي برنامج مختلف. وهو ما يجعل القوى الجادة تبحث مسبقاً عن الخطاب السياسي المركز الذي يفيد ليس فقط في شد العصب، بل في رسم الوجهة التي تظهر لاحقاً طبيعة التحالفات المتوقعة في أكثر من منطقة.
في هذا السياق، يمكن فهم انطلاقة المعركة الانتخابية من قبل التيار الوطني الحر عبر الخطاب الذي ألقاه رئيسه جبران باسيل قبل يومين. الرجل لم يقطع مع ماضيه، لكنه فتح الباب أمام أسئلة حول طريقة تفكيره بالنسبة للتحالفات من جهة، وبالنسبة للخطاب السياسي من جهة ثانية. ويمثل التيار تجربة خاصة، ربطاً بكونه الطرف الأكثر عرضة للهجوم من قبل تحالف واسع داخلي وخارجي. والواضح أن باسيل يعرف هذه النقطة بصورة دقيقة. بل يعرف أنه في هذه اللحظة يواجه جيشاً من القوى السياسية والمجموعات الحزبية والشخصيات، في ظل حملة مركزة لا يتوقع أن تقف ضده من قبل سفارات أميركا وأوروبا وأخرى عربية، تعتقد أن ضربه خطوة ضرورية في سياق معركة عزل حزب الله. وبهذا المعنى، فإن التمايز الذي أراده باسيل في مؤتمره الصحافي أول من أمس، لا يهدف إلى قطع الصلة بالحزب لتخفيف الضغط عليه، بل يهدف إلى إعادة التموضع بصورة تسمح له بتوسيع هامش المناورة في وجه خصومه، وفق جدول واضح:
- مسيحياً، يريد باسيل القول للمسيحيين عموماً إنه ليس مسؤولاً عما يصيبهم من خسائر في مجالات مختلفة، ولا عن مراكمة الخسائر التي يتحدث عنها قادة مسيحيون في لبنان. أكثر من ذلك، فإنه يوضح، مرة جديدة، أن بمقدوره لعب دور إضافي في حماية مصالح المسيحيين في لبنان والمحيط، وهو، هنا، يحفظ التحالف مع حزب الله، لكنه يضعه في سياق أوسع، يستهدف ليس التفاهم لتحقيق مكاسب مباشرة في السلطة، بل في سياق البحث عن علاقة تتيح له التمايز داخلياً والتوسع في الإقليم.
- مسيحياً أيضاً، يبدو باسيل مضطراً في وقت قريب إلى مصارحة جمهور التيار، أو الجمهور المنسحب أو المبتعد، حول ما قام به التيار خلال 15 سنة. وهو يعرف أن المراجعة والنقد الذاتي والمساءلة الذاتية أمور لا بد منها، ومن الأفضل أن يبادر هو إلى طرحها كي لا تتحول إلى كومة من الأسئلة تلقى في وجهه كل يوم.
- إسلامياً، يعرف باسيل أن معركة شيطنته قائمة من دون توقف عند غالبية القوى النافذة في الوسطين السني والدرزي، وأنه يواجه مشكلة جدية عند قسم من الشيعة بسبب خلافه الحاد مع حركة أمل. وهو، وإن كان لا يريد مشكلة أو قطيعة مع حزب الله، فإنه يرغب في الوقت نفسه بمعادلة من النوع الذي يسمح له بالمناورة بعيداً من متطلبات الحزب حيال العلاقة مع حركة أمل. وربما كان باسيل شديد الحذر في عقد تسوية مع حركة أمل وفق مقترح حزب الله، ليس لأنه لا يريد هذه التسوية، بل لشعوره أنها لن تفيده في شيء. بل على العكس تحرمه ورقة في السجال العام الذي بدأه.
عملياً، قد يكون باسيل أول من أطلق الحملة الانتخابية من خلال خطاب سياسي. وهو إذ استخدم الهجوم طريقة للدفاع عن التيار في وجه الحملة الظالمة التي يتعرض لها منذ وقت غير قصير، فإن ذلك يتطلب منه مقاربة من نوع آخر لعلاقته مع الآخرين، وخصوصاً مع حزب الله. الحزب الذي سيقف إلى جانب التيار حيث يجب في الانتخابات المقبلة، ولو بالطريقة التي قد تزعج التيار، خصوصاً حيث لا يمكن للحزب أن يقايض «خطه الأحمر» الخاص بالعلاقة مع أمل، بأي شيء. وهنا ستكون المهمة أصعب على الحزب منها على أمل أو التيار. علماً أن الطرفين يحتاجانه في كثير من العناصر الضرورية للفوز في الانتخابات المقبلة.