مرشح؟ إتصل بنا
ظروف انتخابات ١٩٤٣ ودور الكتائب فيها

ظروف انتخابات ١٩٤٣ ودور الكتائب فيها

كتب د. مارك م. أبو عبدالله - باحث في تاريخ الانتخابات النيابية:
شكّلت الانتخابات النيابية التي جرت في صيف ١٩٤٣ محطة محورية في عملية استقلال لبنان، لإن المجلس النيابي الذي افرزته هذه الانتخابات هو من بادر الى الغاء المواد المتعلقة بالانتداب الفرنسي في الدستور اللبناني والتي كانت تعيق تحقيق استقلال لبنان الناجز. إلا ان هذه العملية، وكما تلك التي حصلت من بعدها، تأثر مسارهابمجموعة ظروف إقليمية ودولية، ما جعلها نتائجها الى حدّ ما محسومة سلفًا في عدد من الدوائر، كما كان لافتًا في هذه الانتخابات عدم مشاركة الكتائب فيها.

انعكس الصراع الدولي بين فرنسا وبريطانيا وتبدل مواقف كل من سوريا ومصر حول استقلال لبنان على الواقع اللبناني وتحديدًا حول مسار العملية الانتخابية. إلا ان تلك العملية لم تكن، وامام تداخل العوامل الدولية والإقليمية والمحلية، سهلة على الاطلاق. إذ وخلال التحضير للعملية الانتخابية بلغ الخطاب الطائفي في لبنان شأنًا يصعب قبوله. وما زاد من حدة الخطاب الطائفي محاولة رئيس الجمهورية المعيّن وقتذاك أيوب ثابت إدخال عددا المغتربين اللبنانيين الذين ينتمون في أغلبيتهم الساحقة الى الطوائف المسيحيةفي عداد الهيئة الانتخابية بهدف إعادة توزيع المقاعد النيابية، من خلال تخصيص ٣٢ مقعدًا للمسيحيين، مقابل ٢٢ مقعدًا للمسلمين. وفي ١٥ تموز وجه الرئيس الأعلى لحزب الكتائب، الشيخ بيار الجميل، كتابًا مفتوحًا الى رئيس الدولة، يعلن فيه تأييده بضم عدد المقترعين المغتربين، انطلاقا من تحقيق مبدأ المساواة، وكل إجراء يخالف هذا المبدأ يعتبر من قبل الكتائب مخالف للمصلحة الوطنية. إلا ان القيادات الإسلامية الرئيسية اعتبرت ذلك امرًا مرفوضًا وهو غبن، واعتبرت ايضًا ان حرص البعض على اثبات التفوق العددي في عدد طائفة دون أخرى، انما يقصد منه تأكيد الصبغة التي يريدون صبغ لبنان بها، واعتبار بقية الطوائف بمثابة أقليات. وهذا ما دفع الجنرال كاترو في ٢٢ تموز الى استبدال أيوب ثابت ببترو طراد، وهو محام محترف من طائفة الروم الأرثوذكس. كما جرى تكليف الجنرال سبيرز بأن يقوم بدور الحكم في هذا الموضوع فنجح هذا الاخير بحمل المسيحيين والمسلمين على القبول بتسوية، ما لبثت ان صارت عُرفًا. وفي ٣ اب ١٩٤٣ حسم المندوب الفرنسي هيللو المسألة من خلال رفع عدد الممثلين الى ٥٥ نائبًا موزعين بنسبة ٣٠ مقعدًا للمسيحيين و٢٥ للمسلمين. واستمرت صيغة ٦ الى ٥ اساسًا لتأليف المجالس النيابية اللبنانية التسعة منذ العام ١٩٤٣ ولغاية العام ١٩٧٢.جرت انتخابات ١٩٤٣ وفقًا لنصّ القانون الانتخابي الصادر بموجب القرار رقم L.R./2 في ٢/١/١٩٣٤، من قبل المفوض السامي دي مارتيل، والذي شكلت فيه المحافظة دائرة انتخابية واحدة. واشترطت المادة ٥٦ من هذا القانون حيازة المرشح على نصف عدد المقترعين زائدًا واحدًا، وتحسم الأوراق اللاغية من أصوات المقترعين، أما في حال عدم حصول أي من المرشحين على النصف زائد واحد، فعندها تجري دورة ثانية، كانت تُعرف بدورة البالوتاج، يتنافس خلالها اثنان من المرشحين ممن حصلوا على اعلى نسبة من الاصوات. كما جرى توزيع المقاعدعلى المذاهب والمناطق وفق إحصاء سكاني قامت به سلطات الانتداب قبل بضعة اشهر من تاريخ إجراء الانتخابات، والذي كان قد جرى في الأساس بهدف توزيع الاعاشات على المواطنين نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية بسبب احداث الحرب العالمية الثانية. شمل الإحصاء المذكور الذكور المقيمين والذين اختاروا الجنسية اللبنانية. 

اما في خريطة التحالفات في قضاء المتن، الذي كان جزءً من دائرة محافظة جبل لبنان، كانت الحركة الكتائبية اقرب وقتذاك الى الكتلة الدستورية، بزعامة بشارة الخوري، من الكتلة الوطنية، بزعامة اميل اده. إلا ان الكتائب رفضت المشاركة في هذه الانتخابات لعدة اعتبارات من بينها ما هو متعلق ببُنيتها التنظيمية من جهة، وخطابها السياسي من جهة أخرى. ففي ما يتعلق ببُنيتها التنظيمية، كانت الكتائب، وهي التي قد تأسست عام ١٩٣٦، ما زالت طرية العود، ولم تكن تملك من الخبرة ما يخولها خوض غمار تلك الانتخابات. فهي لم تشارك في انتخابات العام ١٩٣٧، والتي وصفتها وقتذاك الكتائب بالمهزلة، لإنها كانت، ووفق بيار الجميل، عبارة عن تنفيذ خطة مرسومة تضعها مشيئة هذا المفوض السامي او ذاك المستشار. فحرية الاقتراع  كانت معدومة وكان معظم النواب يعينون عن طريق الانتخاب تحت ظل الضغوطات الخارجية. ولم يكن، وبحسب قول بيار الجميل، لمبادئ الكرامة الوطنية والتحرر وطلب السيادة والاستقلال من مجال في ثنايا تلك الخطة. أضف الى ذلك، ان بُنيتها التقليدية جعلتها شبيهة بالأحزاب التي كانت موجودة خلال القرن التاسع عشر في أوروبا والتي لم تكن غايتها الوصول للسلطة وتولي إدارة شؤون البلاد وتنفيذ برامج معينة تحقيقًا لأفكارها وأهدافها، بل كانت غايتها ترتكز على مجرد مشاطرة الأفكار والقناعات من جانب أعضائها والمنتسبين اليها. اما لجهة الخطاب السياسي للكتائب، فقد ابرزت، ومنذ اليوم الأول لتأسيسها، عقيدتها التي تشكل محاولة نظرية للتوفيق بين الاتجاهات الوطنية المتباينة. ففي بيانها الأول المتضمن الخطوط العريضة للصيغة الوطنية حددت الكتائب هدفها القائم على استبدال المثل الطائفية القديمة، بمثل وطني، واستحداث، في شكل دولة حديثة، الصيغة المؤلفة بين القوى المعنوية التي تحرك كل العائلات الروحية التي يتألف منها الوطن". ولم تترك الكتائب مناسبة إلا وجاهرت برفض الطائفية كأساس في البناء الوطني، مركزة على الأخذ ب"اللبنانية" وحدها. وفي مجال رفض الطائفية، وقبل اقتراب موعد الاقتراع، ارسل بيار الجميل نداءً الى اللبنانيين اعلن فيه: "ان من واجب كل لبناني ان يعمل ويفكر لبنانيًا. على المسيحي ان يتناسى مسيحيته والمسلم اسلامه فيدينا بدين لبنان في سبيل الوحدة القومية وينتخبا حسبما يوحي اليها الضمير لان على نتيجة الانتخابات يتوقف مصير الامة". 

ولكن كانت فئات كبيرة من اللبنانيين ترتاب من دعوة الكتائب للاستقلال الكامل الناجز، وتعتبرها تهورًا فيه الكثير من نزق الشباب. لذلك يبدو ان احجام الكتائب عن المشاركة في تلك الانتخابات عائد ايضًا بسبب عدم توافق خطابها السياسي مع الأكثرية الشعبية خاصة المسيحية منها وبصورة اخص تلك القاطنة في الأرياف، والتي تشكل اغلبية مناطق محافظة جبل لبنان. إلا ان الكتائب وانطلاقا من موقفها من ضرورة انجاز الاستقلال التام والناجز، كانت قريبة جدًا من بشارة الخوري ورياض الصلح. لذلك، وبُعيد الانتخابات، مثلّت الكتائب ذلك التيار الداعم للميثاق الوطني وللوحدة الوطنية بين المسيحيين والمسلمين. وارادت الكتائب من خلال دعمها الميثاق الوطني ان تتخطى الواقع، وتتغاضى عن الماضي وما فيه من "اشباح" تقلق وجدان اللبنانيين، خاصة المسيحيين منهم، لتعطي التفاعل المسيحي-المسلم بُعدًا مستقبليًا. أما فيما يتعلق بالظروف الإقليمية والدولية التي حالت دون مشاركة الكتائب في هذه الانتخابات، وهي ان الكتائب لم تكن قريبة من سلطات الانتداب، التي قربت منها، ومنذ أيام المفوض السامي الجنرال هنري غورو مجموعة من المستشارين تضم مختلف الطوائف والمذاهب اللبنانية ومن المفكرين الطامحين الى الثروات والمناصب السياسية والإدارية. كما ان الكتائب، وعلى الرغم من تراجع الدور الفرنسي وتعاظم الدور البريطاني، لم تجار البريطانيين في تدخلهم في الانتخابات، إذ تحدثت جريدة البيرق عن الليرات الإنكليزية التي غزت المناطق كالبقاع وبيروت وجبل لبنان. فلكل هذه الأسباب مجتمعة آثرت الكتائب عدم المشاركة في الانتخابات النيابية عام ١٩٤٣.