عقد اجتماعي جديد على الطاولة.. تأجيل الانتخابات أولاً
كتب خلدون الشريف في المدن:
في تمهيد واضح لموقف الرئيس سعد الحريري، افتتح الرئيس تمام سلام باب الاعتكاف عن الترشح للانتخابات النيابية. أمّا الرئيس نجيب ميقاتي، فله أسلوبه وطريقته في ترك التباسات تحتمل التأويل، لكن من الواضح أنّه لن يتجاوز سقف عدم الترشح الذي أرساه الحريري.
يعمل رؤساء الحكومة السابقين على استقطاب عزوف مرشحين محتملين، وصولًا إلى التمهيد لأطراف سياسية وازنة بالكلام عن فقدان الميثاقية في انتخابات مقبلة تؤثر على المشهد اللبناني برمته، أصوات تبدأ أرثوذوكسية ومن ثم تتدحرج الكرة لتبلغ الدروز والموارنة وصولًا إلى الموقف الحاسم لرئيس مجلس النواب نبيه برّي ليرفض رفضًا قاطعًا غياب المكون السنّي عن الترشح. وهكذا تتأجل الانتخابات بعد التمديديْن في 2013 و2014 لكن ليس من دون أثمان:
الثمن الأول: اقتناع المجتمع الدولي بعدم جدوى إجراء الانتخابات وسط عزوف عناصر أساسية من المكون السنّي عن الترشح. هذا الاقتناع ينفتح على باب أوحد وهو تبني الثنائي الشيعي لنهائية ترسيم الحدود البحرية، ما يؤمن استقرارًا لعقد أو أكثر مع إسرائيل؛ علماً أنّ هذه الخطوة تعكس المطالب الغربية من لبنان، وعلى رأسها الأميركية، بهدف إراحة اسرائيل أمنيًا ونفطيًا من جهة، وإعادة ضخ المال في شرايين لبنان المفلس من جهة ثانية.
الثمن الثاني: اقتناع الدروز بضرورة التأجيل، ربطًا بتطبيق ما لم يطبق في الدستور لجهة إنشاء مجلس شيوخ برئاسة درزية تتمثل فيه العائلات الروحية ،ويتدخّل في كل الأمور ذات الطابع الميثاقي حصرًا.
الثمن الثالث: اقتناع المسيحيين بضرورة التأجيل ريثما يتم الاتفاق على اسم رئيس مقبل للجمهورية قبل إجراء الانتخابات النيابية، أملًا بتمديد ربما أو بالتخلص من عقوبات أو الإفلات من فيتوات، وأخيرًا أملًا بالتوافق على رئيس يشبه الياس سركيس. كل طرف مسيحي ينتظر فرصة تتناقض مع فرصة الآخر، لكن أعين الموارنة دائمًا على رئاسة الجمهورية.
الثمن الرابع: وهو الأشد وقعاً، اقتناع الشيعة بالتأجيل حتى تتركز حقوقهم بالنصوص بعدما تركزت بالنفوس. بقبول العدو والصديق، بات حزب الله القوة الأولى والكبرى التي تمتلك حق النقض والتعطيل والتسهيل في لبنان. فإذا قَبَلَ حزب الله بالتسوية، سيفرض "تقريش" أثمانها في السياسة في ترسيخ لقوله في العام 2008: "لن يأخذوا منا بالسياسة ما لم يأخذوه بالحرب".
بعد انفجار المرفأ في 4 آب، شكّل التوقيع الثالث أحد أسباب تعطيل تأليف الحكومة، وبعد تأمينه في الحكومة الراهنة، لا عودة إلى الوراء. فقد بات التوقيع الثالث بالنسبة إلى الطائفة الشيعية مطلبًا حيويًا وأداة أساسية لنفوذ الطائفة داخل الحكم، بل يمثّل السبيل الأوحد لتركيز الصلاحيات والدور والإشراف والشراكة. في الواقع، شكّلت انتفاضة تشرين الأول 2019 بداية نهاية العقد الاجتماعي الذي أرساه اتفاق الطائف بعد الحرب، وإن كان لبنان قد شهد حروباً وخضات سابقة أنتجت "حوارات وطنية" واتفاقاً كبيراً كاتفاق الطائف ثم تعديلاً له بقوة الأمر الواقع في الدوحة بعد أحداث 7 أيار. يشكّل هذا التوقيع إذن أحد عناصر أحجية العقد الاجتماعي الجديد، أو أنّه قد لا يكون كافيًا. هي أحجية سيواصل الأفرقاء العمل على تركيبها بعد تأجيل الانتخابات النيابية.
بناء على ما سبق، نستدرك أبعاد دعوة رئيس الحكومة إلى حوار لم ينجح، بل ليس مقدرًا له أن ينجح، وكذلك سقوط مبادرة رئيس الجمهورية ميشال عون في الدعوة إلى حوار وطني رفضه عدد من القوى السياسية الوازنة.
ومن كل ما سبق، يُفهم ما يتردد في الكواليس حول إعداد واستعداد لإطلاق حوار وطني برعايات عربية وإقليمية ودولية وأممية حتى، وصولًا إلى إخراج لبنان من مأزقه عبر محاولة ردّه إلى الانتظام العام الإقليمي والدولي.
على مر السنوات الماضية، ونتيجة الأزمات المتعددة، شارك لبنان في حوارات ومؤتمرات دولية صبّت في الاتجاه نفسه، وكان آخرها مؤتمر باريس 4 في 2018 الذي ربط المساعدات بالإصلاحات مستبقاً الانهيار العظيم.
أمّا اليوم وعلى وقع التغيرات الإقليمية، فتحتاج خطوة عقد مؤتمر كبير يخرج لبنان من مأزقه إلى اتفاق نووي بين مجموعة 5+1 وإيران فإذا ما لاح، ولاحت إلى جانبه بوادر ترسيم حدود مع لبنان وسوريا، يفتح سمسم أبوابه على مؤتمر كبير يأتي بحلول تأخرت ودفع اللبنانيون نتيجتها أثماناً باهظة لم ينتهوا من دفعها بعد.
قد يكون سيناريو كهذا قيد الإعداد، وقد يُستبعد نتيجة فشل غير مرجح في فيينا أو قد يسعى بعض الأطراف المحلية إلى عرقلة ما تستطيع عرقلته، لكن في نهاية المطاف لا يمكن للبنان الاستمرار بالانحدار ولا يستطيع أن ينتظر غودو إلى ما لا نهاية.