عندما يتحسّر حلفاء الحريري الحاليون والسابقون على نعمة وجوده
كتبت غادة حلاوي في نداء الوطن:
بتعليق مشاركته في الحياة السياسية، خلط الرئيس سعد الحريري الاوراق داخلياً. واقعياً قلب زعيم السنة ورئيس تيار «المستقبل» الطاولة بوجه الجميع بعدما ضاقت السبل في وجهه، وضُيّق الخناق حوله. خرج او اخرجوه فالنتيجة واحدة فراغ وتململ سني وبدائل ضعيفة تفتقد للشعبية بغالبيتها. المشكلة هنا ليست في السنة بل في الجهات السياسية التي احرجته فأخرجته، مع الاخذ في الاعتبار العوامل الخارجية ورفع الغطاء الاقليمي والدولي عنه، وبغض النظر عن هفوات الحريري السياسية وتراكم اخطائه التي دفع ثمنها بمفرده.
بقراره استكمل الحريري مشهد استقالته في اعقاب 17 تشرين 2019. قال لمجموعات الثورة التي تعتبره واحداً من «كلن يعني كلن» ها انا قد تنحيت فليتم تشكيل الطقم السياسي الذي تعدون به. فتكون بذلك خطوة تنحيه استكمالاً لاستقالته في 17 تشرين 2019.
خلط الاوراق في المنطقة يجعلها امام احتمالين لا ثالث لهما، إما المواجهة او التسوية. في المواجهة ستكون حتما مع سلاح «حزب الله» والتصدي للنفوذ الايراني، واذا كانت التسوية فربما سيتم تسليم لبنان للايراني مقابل تسليم اليمن للسعودية. وفي الحالين لن يكون الحريري رأس حربة في المواجهة التي قد تجر البلد الى حرب اهلية داخلية بذورها نثرت منذ فترة. هنا يُفترض بالطائفة السنية ان تكون امام قرارات مصيرية صعبة على الحريري.
كل الاطراف السياسية التي نصبت منصات صواريخ في مواجهة الحريري، لامته وأنبته وصورته على انه شخصية ضعيفة ظهرت تبكي وتتحسر على نهايته، بينما هي في واقع الحال تتحسر على واقعها السياسي بعد تعليق الحريري وتياره السياسي السني الاوسع تمثيلاً على مستوى السنة. لكل من هؤلاء حساب طويل تشهد عليه محطات تخلوا فيها عن الحريري او انقلبوا عليه.
الوحيد الذي احتضن الحريري في كل مراحله واستوعبه ولم يتخلّ عنه كان رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي اصر عليه رئيساً للحكومة حتى آخر لحظة قبل اعتذاره الاخير وحاول تسهيل مهمته في تشكيل الحكومة. حتى يوم قصده رئيس «الحزب الاشتراكي» وليد جنبلاط ناصحاً بعدم امكانية المراهنة على سعد لم يألُ جهداً في محاولة اعادته الى لبنان للوقوف على رأيه، قبل اي خطوة يتخذها متعلقة بالحكومة ورئيسها.
أما «حزب الله»، فلم يعرف كيف يحمي الحريري ولم يقدّر له وضعيته المحلية والعربية، أحرجه حتى اخرجه. يشهد وزراء سابقون ان «حزب الله» لم يكن معارضاً للحريري داخلياً، بدليل النقاشات التي كانت تحصل داخل مجلس الوزراء. في احدى المرات رفع احد وزراء «الحزب» صوته معارضاً الحريري على قرار ما، فما كان من الوزير الآخر لـ»الحزب» الا ان سارع للقول بصريح العبارة»: عذراً دولة الرئيس زميلنا لا يعبّر عن حقيقة موقف حزب الله». ربما كانت لـ»حزب الله» حساباته الاقليمية الاستراتيجية التي أملت عليه اقالة حكومة الحريري او عدم تقديم تسهيلات لترؤسه الحكومة. لم يقدّر «حزب الله» حجم الضغوط الخليجية على الحريري، تقدمت حساباته الاقليمية على حساباته المحلية على مستوى تدخله في ملفات الخارج، ومحلياً لم ينجح بالتوازن في التعاطي بين الحريري وبين حليفه المسيحي، فكان في احيان كثيرة يقدم شؤون «التيار» على حساب الحريري، وبرز هذا خصوصاً مع محاولة الحريري تشكيل الحكومات. مشكلة «حزب الله» انه أدار معركته مع السعودية من خلال الحريري وعلى حسابه، علماً ان الحريري لم يخطئ التقدير مع «حزب الله» وبقي ممسكاً العصا من الوسط في التعاطي معه حفاظاً على العلاقة السنية الشيعية. كان الحريري بالنسبة للثنائي الملاذ الوحيد لدرء الفتنة في الشارع، فمَن للثنائي بعد الحريري عند كل مفترق او مشروع فتنوي احتمالاته واردة في اية لحظة.
في العلاقة مع الاشتراكي، لم يبالغ جنبلاط بالتعبير عن حزنه لقرار الحريري. يدرك ان البديل عنه تشرذم على الساحة السنية قد يدفع ثمنه بتفلت الوضع في الجبل وانتخابياً في الشوف والبقاع الغربي. مع اي بديل يتفاهم جنبلاط، الذي تقرب في فترة من الفترات من العهد لتقديره ان الحريري لم يعد بالامكان الرهان عليه. فعل ذلك من دون مشورة الحريري ولا اعلامه مسبقاً.
لكن اكثر من اساء للحريري كانت القوى المسيحية. بعد التسوية الشهيرة مع الحريري لم يراع «التيار الوطني الحر»خصوصية الحريري ويعزز حضوره بالتوازن السياسي الذي يمليه، كما لم يراع حجمه داخل طائفته وانطلاقاً من موقعه كرئيس للحكومة. واذا كان «التيار» يعتبر ان موقف رئيس الجمهورية ميشال عون خلّص الحريري من السعودية، فلا ينسى الحريري ان احتجازه كان بسبب التسوية التي اوصلت عون الى بعبدا. هنا ايضاً يمكن القول ان باسيل اخطأ في حساباته في التعاطي مع الشريك السني حتى اثناء اختيارالمرشح لرئاسة الحكومة، وابواب بعبدا الخلفية تشهد كيف ان شخصيات ليس لها حيثية تم التفاوض معها على رئاسة الحكومة. مارس «التيار» نظرية الرئيس القوي في رئاسة الجمهورية بينما حاول الانقلاب على الحريري القوي في طائفته.
وبالحديث عن العلاقة مع رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع، جردة حساب طويلة جعلت الحريري يرفض استقبال وزير سابق من «القوات» قبيل اعلان موقفه. تدهورت العلاقة بأسرع مما يمكن تصوره. في مجلس خاص استغرب الحريري كيف يتوجه رئيس «القوات» لملامته على التسوية مع «التيار الوطني الحر». يقول في مجلس خاص، كنت على وشك الاتفاق مع رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية لاكتشف انهم بصدد الاتفاق مع عون من دون علمي، ويعقدون اتفاق معراب الذي يقوم على تسكير الساحة المسيحية وتقسيمها بينهما». مشى الحريري مع عون ولم يدرك انه عقد اتفاقاً سرياً مع «القوات» على تقاسم الحصص داخل الحكومة والادارات».
في تعليقه على قرار الحريري، حاول جعجع تصويب البوصلة لكنه وفق مسؤول مستقبلي فقد تأخر كثيراً فلو كان تحدث بهذا المنطق قبل عامين لكان الوضع اختلف. جعجع ايضاً قد يكون في ورطة لأن البديل عن الحريري غير مضمون الشعبية.
تطول اللائحة بمن تخلفوا عن دعم الحريري، بعضهم كانوا صنيعته. عقاب صقر واحد منهم، وغيره كثيرون ممن تركوا الحريري يعوم وحده، فكانت لهم خياراتهم بعيداً عنه وفي مواجهته.
ماذا بعد الحريري؟ محاولات متفرقة. خلال مأدبة غداء حضرتها شخصيات سنية اعتبر البعض ان التعاطف السني الواسع مع الحريري لحظة اعلان تعليق مشاركته في الحياة السياسية فورة عاطفية سرعان ما تنتهي. من ناحيتهم حاول رؤساء الحكومات تلقف الموقف وتشكيل سلطة مركزية بديلة لكن جهودهم لم تتكلل بالنجاح. الحريري لم يبايع احداً منهم، حتى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة والذي حاول ثني الحريري عن قراره لم يجعل منه الحريري خليفة موقتة، بل تمنى عليه «حبيّاً» الا يتعب نفسه وحياته بالسياسة. الحريري خارج المشهد السياسي واقعاً، لكن السؤال هل لا يزال في لبنان سياسة ولاعبون؟