عندما يعزف تمام سلام
كتب نجم الهاشم في نداء الوطن:
عندما يعزف تمام سلام عن الترشح إلى الإنتخابات النيابية في بيروت فهذا لا يعني أنه حزين وليس على ما يرام بل إن بيروت حزينة وليست بأحسن حال. حزن تمام سلام من حزن بيروت وحزن بيروت من حزن الوطن. ثمة انهيار كبير حاصل وليس عزوف تمام بك إلا أحد تعابير هذا الإنهيار.
الإنهيار ليس مادياً واقتصادياً وسياسياً فحسب. ذلك أنه انهيار في القيم أيضاً وفي مستويات العمل السياسي. ولذلك فإن قرار تمام سلام بالعزوف عن الترشح ليس إلا تعبيراً عن سقوط قيمة من هذه القيم وعن قلق على مستوى العمل السياسي.
لم يأت تمام سلام إلى العمل السياسي من فراغ. انتظر طويلاً حتى دخل هذا العالم وعندما فتحت أمامه الأبواب بقي حذراً ولم يدخل مطأطأ الرأس. أراد أن يكون دخوله مترفعاً وأن يبقى كذلك. في تلك الدار في المصيطبة لا يمكن أن يكون هناك تنازل عن العبء الذي ألقاه التاريخ على تلك العائلة. ومن يسكن تلك الدار لا بد من أنه يجالس ذلك التاريخ ولا يمكنه أن يستبدله بتاريخ أدنى أو أصغر أو أقل وبمستوى منخفض في العمل السياسي.
أراد تمام سلام أن يكون حزب الأوادم في بيروت. عاش تاريخ بيروت في أصعب أيامه وفي أحلاها. رافق صعود والده صائب بك سلام وتعايش مع هبوطه وانسحابه مكرهاً من العمل السياسي، عندما أجبر قسراً على الخروج من بيروت في منتصف الثمانينات بعد عودة النفوذ السوري إليها، لاجئاً إلى سويسرا متنزهاً قرب بحيراتها مستعيداً تجارب الماضي بعد أن تيقن أن المستقبل لن يبتسم له من جديد. عزوف صائب سلام لا يشبه على كل حال عزوف تمام سلام.
عندما رفض تمام سلام أن يشارك في انتخابات العام 1992 التي نظمها عهد الوصاية السورية بأدواته اللبنانية، لم يخف من احتساب هذا القرار على خلفية أنه يلاقي المقاطعة المسيحية لتلك الإنتخابات التي كان يراد منها الإنقلاب على الطائف وعلى صورة لبنان، وأن تكون استكمالاً لإبعاد صائب سلام عن بيروت. كان ممنوعاً على صائب سلام أن يعود وكان ممنوعاً على تمام سلام أن يدخل إلى الملعب المفتوح لغيره.
لم يطل غياب تمام سلام. في العام 1996 ترشح ونجح بينما كان صائب بك قد عاد إلى بيته البيروتي ليمضي آخر فصول حياته قبل أن يغادر في العام 2000 عندما سقط تمام سلام في الإنتخابات تحت حسابات الرئيس رفيق الحريري، الذي كان نجمه صاعداً في مواجهة انتخابية واضحة ألغى فيها الشخصيات السنية الأخرى، ولكن التعاطي مع تمام سلام ما كان يجب أن يتم على مستوى واحد من التعامل مع غيره كالرئيس سليم الحص مثلاً. كان رفيق الحريري يريد أن يختصر الحضور السياسي للطائفة السنية في بيروت وأن يمد تأثيره إلى كل لبنان وذهب تمام سلام ضحية ذلك التمدد. في حضرة رفيق الحريري لم يكن هناك مكان للآخرين. تلك كانت مرحلة لا يعرف متى تنتهي ولكنها انتهت باغتياله في 14 شباط 2005.
عزف تمام سلام عن الترشح في انتخابات ذلك العام ولكنه عاد في العام 2009 إلى مجلس النواب على لائحة الرئيس سعد الحريري. بين سعد ورفيق اختلفت المقاييس والحسابات فعاد تمام سلام إلى الملعب. خروج الحريري الإبن من ساحة رئاسة الحكومة في العام 2011 وسقوط تجربة نجيب ميقاتي في حكومته الثانية في العام 2013 أعادت فتح الباب الواسع أمام تمام سلام عندما تم تكليفه برئاسة الحكومة. كان يعرف أن هذه الحكومة التي ترأسها ستملأ الفراغ الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. ولذلك أراد أن يخوض هذه التجربة مع أنه كان في إمكانه العزوف عنها. التجربة كانت قاسية وعانى فيها محاولاً أن يبقى على مستوى سياسي يرفض التنازل عما يتطلبه منه الموقع والدور. تلك مهمة لم تنته إلا مع انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.
بقي تمام سلام في قلب اللعبة السياسية وعاد إلى مجلس النواب في انتخابات أيار 2018 ولكنه اليوم اختار أن يبتعد. اختار توقيت خروجه معتبراً أنه يجب فتح المجال أمام أجيال جديدة رافضاً أن يورث المقعد والدور لابنه صائب الثاني. عزوف تمام سلام بهذا المعنى قد يضع دار المصيطبة خارج إطار العمل السياسي. وهو يعني أن حقبة أساسية من تاريخ لبنان تنتهي. تلك الحقبة بدأت تتناقص منذ خرج صائب سلام من لبنان مكرهاً ولم تعد مع عودته. تمام سلام ملأ مرحلة انتقالية بين الحضور في التاريخ البيروتي وبين الجلوس على مقاعد الإحتياط. ربما ليس وحده من يختار هذا القرار. وهذا يعني أن قدر بيروت يتغير وأن لحناً حزيناً يسمع في أرجاء العاصمة التي سكنت التاريخ. لحن يسمعه أيضاً تمام سلام في تلك الدار وهو يستعرض صور الماضي وليس في باله أن يفكر بصور جديدة تنتظر أن تعلق، أو بفصول جديدة تنتظر أن تكتب. ذلك كان الفصل الأخير في رواية بيت سلام إلا إذا أعاد التاريخ فتح الباب وهو قلّما يفعل...