عوده: على اللبنانيين ألا يفوّتوا الفرصة الذهبية للانتخابات فيحسنوا استغلالها
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداسا في كاتدرائية مار نيقولاوس في الأشرفية.
بعد القداس، ألقى عظة قال فيها: "مثل السامري له معنى كنسي عميق، وهو يظهر رسالة الكنيسة الحقيقية في العالم. سرد الرب يسوع المثل إجابة عن سؤال طرحه ناموسي جاء يجربه قائلا: من هو قريبي؟. هذا المثل، كما فهمه الآباء القديسون وفسروه، يدل على رفض الكنيسة للمفاهيم العنصرية الضيقة، كما يوضح أسباب التفريق بين الناس. ثم يطرح علاجا للذي وقع بين لصوص، وهو يرمز إلى كل إنسان يبتعد عن مكان حضرة الله (أورشليم)، ويقصد عالم الارتداد (أريحا). بدأ الناموسي بطرح السؤال التالي: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟، وعندما سأله المسيح: ما هو مكتوب في الناموس؟ ماذا تقرأ؟ أجاب: أحبب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل ذهنك، وقريبك كنفسك. اضطر الناموسي على الاعتراف بأن محبة الله الكاملة، ومحبة القريب كأنفسنا، يدخلاننا إلى الحياة الأبدية. عندئذ قال له المسيح: إفعل هذا فتحيا. لكن الإنسان الذي عاش حرفية الناموس كانت لديه مشكلتان أساسيتان: أولا، لم يقدر أن يفهم شمولية المحبة. ميز بين الناس من يهود وسامريين، بين أناس آمنوا بالله الحقيقي وأمميين عابدي أوثان".
أضاف: "لم يقدر أن يستوعب أن الذي من ديانة أخرى أو متعدي الشريعة هو قريبه، فكانت محبته محدودة. الأمر نفسه يحدث في زمننا، إذ يسمح البعض لأنفسهم بأن يتهموا آخرين بالهرطقة والابتعاد عن الإيمان القويم، وينسون أن الجميع هم مخلوقون على صورة الله ومثاله، وأن الله لم يخلق نوعا واحدا من البشر فقط. هذا ما أراد الله أن يفهمه للشعب الإسرائيلي عن طريق أنبياء العهد القديم. فقد اعتبر الشعب الإسرائيلي أنه مختار الله، وأن الخلاص محصور به فقط، لكن الله أظهر خلاصه الشامل لجميع أممه التي خلقها متساوية. هؤلاء الذين يهرطقون إخوتهم، يماثلون ذاك الناموسي الذي تعلق بالحرف فنسي المحبة التي قال عنها الرب إنها تستر الكثير من الخطايا. عليهم أن يعيدوا قراءة الكتاب المقدس بعهديه حتى يفهموا طريقة عمل الله. المحبة لا تعني أن يوارب المؤمن في إيمانه القويم، لكنها تعني أن نقبل الآخر المختلف، والمحبة تستطيع أن تجعل المعوج قويما. هذا التمييز بين البشر ما زلنا نعيشه حتى اليوم في بلدنا لأننا ما زلنا نرى من يدين الآخر بسبب انتمائه الديني أو الفكري أو الحزبي دون أن يرى في الآخر أخا في الإنسانية، مهما كان مختلفا. مشكلتنا أن من ليس مثلنا هو عدونا، ومن يختلف معنا في الرأي مرفوض ويجب التخلص منه. هذا مناف لما علمنا إياه الرب يسوع حين أجاب عن السؤال: أي وصية هي العظمى في الناموس فقال: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك (متى22: 37-39)".
وتابع: "شعر الناموسي في المثل الإنجيلي بحاجة ماسة لأن يكون بارا، كما يوصي الناموس. لكنه أحس في المقابل بأنه لم يستجب كليا لوصية أحبب قريبك كنفسك. لم يستطع أن يرفضها، لأنها واردة في سفر اللاويين (19: 18)، ولا أمكنه أن يهملها من دون تنفيذ. لذا، سأل مريدا أن يبرر نفسه: من هو قريبي؟. الجواب من خلال المثل بدأ بتصحيح صياغة السؤال الخاطئة، بطريقة غير مباشرة. كان ينبغي أن يطرح السؤال بطريقة أخرى. عوض من هو قريبي؟، يجب أن يسأل كيف علي أن أصبح قريبا للآخرين؟ ثم أوضح أن كل إنسان يمكن أن يصبح قريبنا، لذلك علينا ألا نسجن محبتنا في قفص العنصرية، أو في حدود الطائفية. فالكاهن واللاوي كانا يعبدان الله، غير أنهما خشيا الإقتراب من الجريح. أما السامري الغريب الجنس، مع أنه لا ينتمي إلى الشعب المتفاخر بحفظ الشريعة، فقد طبق الشريعة بحذافيرها. أظهر محبة عملية، مخاطرا بحياته، وهكذا أصبح السامري الذي صنع الرحمة قريبا لليهودي الذي وقع بين اللصوص. إذا، نصبح أقرباء الآخرين عندما نحب بلا تمييز، ولعل هذا هو عدم التمييز الوحيد الذي نسامح عليه. إلا أن هذه المحبة التي تميز الحق من الباطل، ولا تميز بين الناس في حاجاتهم، ليست سهلة. ليست عاطفة سطحية متقلبة، إنما هي نتيجة جهاد كبير. إذا أردنا أن نصف هدف الحياة الكنسية، نستطيع القول بأنها اقتناء هذه المحبة غير المحدودة التي لا تطلب ما لنفسها".
وقال: "يحلو للناس الكلام على المحبة أو السماع عنها، لكن علينا أن نكون واقعيين. فالمحبة تتخطى قدرات الإنسان المائت، لأنه حيث الموت تسيطر المصلحة الشخصية. لكن تحطيم الموت والشركة مع المسيح القائم يعطياننا القدرة على الحب. نمو هذه الشركة التي تتحقق داخل سر الكنيسة يتطلب منا جهادا شخصيا كبيرا. يرى الآباء القديسون في مثل السامري الصالح دقائق هذا الجهاد المميزة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم، الذي عيدنا له أمس، إن الذي وقع بين اللصوص هو إنسان فقد الفردوس (أورشليم) ونزل من النظام السماوي إلى محبة نظام الشيطان. اللصوص هم الشياطين، والسامري الصالح هو المسيح الذي اقترب من إنسان بين حي وميت، ومسح جراحه بالزيت وغسلها بالخمر، أي اعتنى بجراح النفس بالكلمة المعزية (الزيت) وبالكلمة المنبهة (الخمر). لقد جمع الذهن المشتت بالتعليم، ثم وضع اهتمامه عند صاحب الفندق، أي عند الرسل ورعاة الكنيسة، موصيا إياهم بأن يتابعوا شفاءه بواسطة أوامر الكتاب المقدس. إذا، في الفندق، أي الكنيسة، يستعيد الإنسان صحته الروحية بإرشاد الرعاة وبجهاده الشخصي، ويشفى من جراح الشياطين والأهواء".
أضاف: "القديس مكسيموس المعترف يربط المحبة نحو الله والقريب بالدينارين اللذين أعطاهما السامري (المسيح) إلى صاحب الفندق (الكاهن). بهذه الطريقة يكشف عمل الكنيسة الرئيسي. إن السبب الأساسي للشر الشخصي والعام بأشكاله المتنوعة هو ابتعاد الذهن عن الله والتصاقه بالشهوات والمجد الباطل والأموال. من هنا تبرد المحبة ويستشيط البغض. من دون المحبة نحو الله والقريب، لا نستطيع أن ننزع الشهوات وحب الأمجاد والمال من نفوسنا. هذه المحبة تعطى لنا مجانا في الوحي الذي ينقله لنا تعليم الكنيسة، وبالنعمة التي تعطينا إياها الأسرار المقدسة. تزداد المحبة بالعمل الذي يحركه الوحي مثل حبة الخردل. يقول القديس مكسيموس: المحبة نحو الله تقاوم الرغبة، لأنها تقنع الذهن وتضبط الشهوات. والمحبة نحو القريب تقاوم الغضب، لأنها تجعل الذهن يزدري بالمجد والأموال. هذه المحبة المضاعفة هي الديناران اللذان أعطاهما المخلص لصاحب الفندق. إن غرس هذه المحبة المضاعفة في قلوب المؤمنين هو عمل الكنيسة الرئيسي".
وتابع: "بلدنا مجرح وواقع بين اللصوص، لكن المؤتمنين عليه لا يريدون إنقاذه، ولا يدعون أحدا ينقذه، لا من الداخل ولا من الخارج. اللصوص سرقوا البسمة من وجوه أبناء هذا البلد، سرقوا صحتهم وأموالهم وأمنهم وتعليمهم، سرقوا الأبناء من أحضان أهلهم، والآباء من حياة أبنائهم. اللصوص جرحوا المواطن وتركوه بين حي وميت، ولم يجد بعد من يطيب جراحه، وكلما وجد سامري شفوق، كفوا يده ومنعوه من إتمام عمله. الشعب مجرح نفسا وجسدا، لم يعد يقوى على المواجهة، أثخنوه جراحا كي لا يعلي الصوت فيما بعد، لكن هذا الصوت يجب أن يعود ليدوي في يوم الإستحقاق الديمقراطي المقبل، وإلا فإن المجرح سيتحول إلى ميت ولن يقيمه أحد، لأنه يكون قد أمات نفسه بنفسه، بحريته وإرادته. لذا، بعدما كان الاتكال على سامري يشفق على مصير الوطن، ولم يوجد، أصبح الاتكال على الجريح نفسه لكي ينقذ نفسه من موت محتم. لذلك على اللبنانيين أن لا يفوتوا الفرصة الذهبية الآتية: الانتخابات النيابية التي، إن أحسنوا استغلالها واختاروا من يمثلهم حقا وبأفضل الطرق، يضعون أنفسهم على السكة الصحيحة التي ستوصل البلاد إلى الخلاص. دم جديد في المجلس النيابي ضروري لتغيير الحياة السياسية وتطوير الرؤية ووضع أسس جديدة لدولة عصرية حضارية متطورة".
وختم عوده: "غدا نبدأ فترة الصوم الذي يسبق عيد ميلاد مخلصنا وفادينا الرب يسوع المسيح بالجسد، والذي به نهيء أجسادنا ونفوسنا لاستقبال ملك المجد بيننا. لتكن هذه الفترة فترة تأمل وصلاة وتطهير للنفس من كل الشرور والخطايا، ولنتعلم من المثل الذي قرأناه اليوم أن نحب الجميع بلا تمييز، وأن نميز بين الإنسان كإنسان وبين معتقده أو انتمائه أو عرقه أو خطيئته، لأن المحبة لا تقف عند حدود، بل تقفز فوق الحواجز لكي تظهر الله للآخر".