عون وباسيل في مواجهة انتكاسة "اللاقرار" الدستوري
كتبت هيام القصيفي في الأخبار:
تستكمل خطوة المجلس الدستوري مسار الاصطدامات الكبيرة بين القوى السياسية. وإذا كانت كلمة سقطة ظلّلت أداء المجلس، فإن الدلالات التي خلص إليها «اللاقرار» أوسع من المواد المطعون فيها
كان متوقعاً، لدى مطلعين على مداولات المجلس الدستوري، أن يكون «اللاقرار» هو القرار الذي سيتخذه المجلس، في جلسة كاملة النصاب، في الطعن الذي قدّمه التيار الوطني الحر. لم يُطيَّر النصاب، وهذا في حد ذاته رسالة أقوى بمفعولها من تغييب مقصود تقف وراءه قوة سياسية معروفة. لكن «اللاقرار» لم يأت، كما قال رئيس المجلس طنوس مشلب نفسه، سقطة للمجلس من تلقاء نفسه. بل جاء غداة سقوط الصفقة التي تخلى عنها الجميع، تتمة لمسار «المَوْنة» على المجلس، وتكريساً لنفوذ القوى السياسية عليه. الملامة على المجلس ليست في قراره فحسب، بل في المنحى الذي تحدثت عنه الكتل السياسية من دون استثناء. ولو أن البيان الأخير للتيار الوطني الحرّ كان الأكثر صراحة في خريطة الطريق التي أراد رسمها للمجلس، على اعتبار أنه مؤثّر فيه. حتى أن رئيس المجلس الذي سمّاه عون، اضطر مرات عدة للقول إن رئيس الجمهورية لم يتصل به، بعدما كثرت إيحاءات التيار بارتفاع حظوظ الأخذ بالطعن، فيما التزم المؤثّرون الآخرون الصمت. لكن جميع ممثلي القوى السياسية تصرفوا بإيحاء واضح.
استنفد المجلس، حتى اللحظات الأخيرة، كل الوقت المتاح له، علّ القوى السياسية تنجح في إخراج الحلول للأزمة السياسية، ويمكن أن يكون في ذلك أحد أخطاء دستوريين يفترض أن ينهوا مسيرتهم في موقع غير ملتبس. فالقوى السياسية تعاملت مع المجلس على أنه أداة تنفيذية أكثر منه مرجعية دستورية. ولو جرت الصفقة - التسوية لكان قرار الدستوري مغايراً. لكن الصفقة التي تبرأ منها صانعوها ورمى كل طرف فيها المسؤولية على الأطراف الآخرين، أطاحت بقرار المجلس، فجاء مكملاً لمسار متوقّع، وكان السباق أيهما يسقط أولاً أو يمشي أولاً. في النهاية، كانت الصفقة ثقيلة بحيث لم يقدر أي طرف على تحملها لضخامة ارتداداتها، وكان من السهل تحميل المجلس الدستوري تبعات انهيارها، من دون الالتفات إلى حجم ما سيخلّفه هذا الأداء على المؤسسات الدستورية والقضائية التي تتعرض للتهشيم الدائم.
مشكلة مقدمي الطعن كما خصومهم أنهم رفعوا سقف التوقعات، حتى حوّلوا موعد اتخاذ المجلس الدستوري قراره على أنه حدّ فاصل بين زمنين. لذا كانت انتكاسة التيار الوطني جراء قرار المجلس كبيرة وموجعة. علماً أنه، بتقديمه الطعن، اتخذ طريقاً دستورياً في واحدة من المرات النادرة التي لا يسلك فيها مسلك التعطيل، خصوصاً في ضوء ما يجري حالياً من تعطيل لمجلس الوزراء. لجأ التيار إلى المجلس للطعن، لكنه ظلّل موقفه السياسي مثلاً من قضية اقتراع المغتربين، بالقانون والدستور، من دون اعتبار لآليات الدستور وحيثياته، ورفع سقف حقوق غير المقيمين في ست قارات فقط، فبدت وكأنها الحق الذي يراد به باطل. فصار اقتراع المغتربين خشبة خلاص لمعارضيه، فيما سيكون سبب سقوط التيار وحلفائه في الانتخابات. ليست انتكاسة بسيطة إبقاء اقتراع المغتربين من ضمن البنود الأخرى التي لم يتخذ المجلس قرار الطعن بها. وهذه الانتكاسة ستؤدي إلى رد فعل لدى باسيل، ستترجم في السياسة تباعاً، بعدما تكاثرت عليه الضغوط والانتكاسات في المراحل الأخيرة، وكان يعوّل عليه لالتقاط بعض أنفاسه، خصوصاً في ضوء ردود الفعل التي حمّلته جزءاً من بنود الصفقة التي لم يكن ليقبل بها نظراً إلى حجم ارتدادها عليه في الشارع المسيحي. ومؤتمره الصحافي أول الغيث في ردود فعل قد تجنح نحو الحدّة مع حلفائه.
النقطة الثانية هي موعد إجراء الانتخابات. لا يحق للمجلس النيابي تحديد موعد الانتخابات، وإذا كان الاتفاق جرى على اعتماد صيغة توصية مجلس النواب بتحديد تاريخ 27 آذار، فإن قرار اعتماد موعد الانتخابات عاد إلى مساره الطبيعي. فالتاريخ تحدده السلطة الإجرائية، أي بتنسيق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة عبر وزير الداخلية. وسبق لرئيس الجمهورية أن أكد أنه لن يقبل بموعد آذار، مصراً على إجراء الانتخابات في أيار. وقد تكون تلك محاولة تسوية لإرضاء عون الذي لن يوقع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة إلا على هذا الأساس، ومن المحتمل أن يغضّ الأطراف الآخرون النظر، بعدما وصلهم حقهم في تصويت المغتربين وحق تفسير الدستور. إذا كان قرار إجراء الانتخابات نافذاً، بحسب ما سمعه جميع المسؤولين من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
النقطة الأخيرة، لم يصل المجلس الدستوري إلى خلاصة نهائية في ما يتعلق بتفسير الدستور، يبنى عليها لاحقاً عند تكرار الحالة التي طعن فيها التيار راهناً. المشكلة أن «اللاقرار» سيؤسس لتكريس السابقة غير اليتيمة. فرئيس المجلس النيابي حصل بما وصل إليه المجلس الدستوري على حصر تفسير الدستور برئاسة المجلس أياً كان الجالس على كرسيها. والمجلس الدستوري بقراره هذا سحب من نفسه هذه الصلاحية. وهذا الأمر يصرّ بري دوماً على تكريسه. وسبق أن حصل سجال علني بين عون وبري حول هذه النقطة، عندما دعا الأول المجلس الدستوري إلى تفسير الدستور وليس فقط مراقبة دستورية القوانين، فرد الثاني بأن صلاحية المجلس مراقبة القوانين، أما تفسير الدستور فمن صلاحية مجلس النواب من دون سواه.
وهذا الشق من مسار المجلس الدستوري سيفتح الباب أمام اجتهادات كثيرة من الآن وصاعداً في تفسير النصاب، وفي عدم قبول أطراف معترضة بتفسير رئاسة المجلس واللجوء إلى المجلس الدستوري للطعن، لعلها تجد أصواتاً دستورية تقبل ما لم يقبله أعضاء المجلس الحالي.