لمحة تاريخية عن المجالس التمثيلية
كتب د. مارك أبو عبدالله:
الثقافة الديمقراطية متجذرة في لبنان، وهي تُشكّل بالتالي جزءاً اساسياً من الهوية اللبنانية المتميزة عن مناطق ودول الجوار. وبناءً على ذلك، ان أي محاولة من قبل السلطة الحاكمة لسرقة حق الشعب في محاسبة ممثليه عام ٢٠٢٢، لا تعتبر مجرد سرقة تُضاف الى سلسلة السرقات التي حصلت بحق الشعب اللبناني منذ خريف ٢٠١٦، بل تُشكّل ضربة موجعة لركن أساسي من الهوية اللبنانية، ما يشكّل تهديداً خطيراً على وجود الكيان اللبناني واستقلاله وحرية شعبه.
من خلال هذا العرض التاريخي يبدو ان الثقافة الديمقراطية متجذرة في لبنان، وهي تُشكّل بالتالي جزءاً اساسياً من الهوية اللبنانية المتميزة عن مناطق ودول الجوار. وبناءً على ذلك، ان أي محاولة من قبل السلطة الحاكمة لسرقة حق الشعب في محاسبة ممثليه عام ٢٠٢٢، لا تعتبر مجرد سرقة تُضاف الى سلسلة السرقات التي حصلت بحق الشعب اللبناني منذ خريف ٢٠١٦، بل تُشكّل ضربة موجعة لركن أساسي من الهوية اللبنانية، ما يشكّل تهديداً خطيراً على وجود الكيان اللبناني واستقلاله وحرية شعبه.
من المعروف ان الديمقراطية نشأت، وبحسب الكثيرين، في المدن اليونانية، وتحديداً في مدينة أثينا، بين القرنين السابع والخامس ق.م. إلا ان لبنان عرف، وفي مدنه الفينيقية، نوعًا من الديمقراطية البدائية منذ القرن الرابع عشر ق.م. إذ عرفت مدينة جبيل في تلك الفترة مجلسًا تمثيليًا مكوناً من رجال المدينة الاحرار المنتمين الى العائلات التي تتمتع بسلطة واسعة في المدينة. ولكن يبدو، وبحسب المصادر العائدة الى القرن الحادي عشر ق.م. فإن هذا المجلس كان له فقط سلطة استشارية. ولكن من المرجح انه وعندما تكون المدينة امام تحديات كبيرة، يصبح للمجلس التمثيلي صلاحيات تقريرية، كما وانه في حال غياب الملك، تتحول حكمًا صلاحيات هذا الأخير الى المجلس التمثيلي، في انتظار اعتلاء ملك جديد العرش.
خلال أيام الامارة المعنية (١٥١٦-١٦٣٥)، كان هناك نوع من المشاركة في صناعة القرار السياسي تمثّل من خلال قيام الأمير فخر الدين المعني الكبير الدرزي باستشارة عدد من الاختصاصيين الموارنة، وساهم ذلك في ترسيخ التعايش الدرزي الماروني في منطقة الشوف، وبالتالي تشكيل نوع من نظام سياسي موّحد شكّل نواة لبنان المعاصر. كما وبدأت، ومنذ تلك الفترة، الكنيسة المارونية تشهد نوعاً من الانتخابات او الاستشارات، وكان البطريرك يُنتخب من قبل المطارنة والكهنة والاعيان والشعب. وفي العام ١٦٧٩ اجتمع الاعيان الدروز في بلدة السمقانية في الشوف واقرّوا ميثاقاً شفوياً عُرف بالميثاق الشهابي (١٦٩٧-١٨٤٠)، وشكّلوا بعد ذلك نوعاً من مجلس تمثيلي. وكان لهذا الأخير بعض الصلاحيات من بينها اختيار امير على لبنان من الأسرة الشهابية السنّية، الموافقة على السياسة الضرائبية وعدد من الأمور المتعلقة بالإدارة المحلية.
في عام ١٨٣٢، قام محمد علي، والي مصر، بالهجوم على منطقة الساحل الشرقي للمتوسط، بهدف إقامة دولة عربية موحدة. وبعد تلك الحملة، خضع لبنان كما غيره من الولايات العثمانية المجاورة، وحتى العام ١٨٤٠، للحكم المصري المباشر. وخلال تلك الفترة، قام إبراهيم باشا، ابن محمد علي، بإنشاء مجالس محلية تتمثل فيها شرائح المجتمع كافة بغض النظر عن انتمائها الطائفي او المذهبي. ومن العوامل المساعدة في هذا التطور اللافت كانت التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها السلطنة العثمانية والناتجة بصورة أساسية عن سلسلة من الإصلاحات التي بدأت عام ١٨٣٩، والتي تضمنت منح حقوق سياسية واجتماعية للأقليات المذهبية والعرقية. إلا ان محمد علي، المتحالف مع فرنسا، وبعد ان قوي نفوذه وثبت سلطته في الساحل الشرقي للمتوسط، اضحى يشكّل تهديداً لمصالح الدول الكبرى وخاصةً بريطانيا وروسيا. فمارست هذه الاخيرة ضغوطًا عليه فاضطر الى الانسحاب عام ١٨٤٠. ولكن، بعد ذلك جرى استخدام الدروز في عملية الاقتصاص من المسيحيين بسبب تعاون هؤلاء مع محمد علي، فوقعت حرب أهلية استمرت بضعة اشهر. فتداعت الدول الكبرى بهدف إيجاد صيغة حكم جديدة للبنان، فجرى تبني اقتراح مستشار النمسا كليمنس ميترنيخ، في إقرار نظام جديد للبنان عُرف بنظام القائمقاميتين. شهد لبنان خلال تلك الفترة (١٨٤٠-١٨٦١) نوعاً جديداً من نظام المشاركة في السلطة، فوفق هذا النظام عُيّن قائمقام ماروني في القائمقامية الشمالية وقائمقام درزي في القائمقامية الدرزية، كما وأنشئ في كل قائمقامية مجلس محلي يمثل الاعيان الموارنة في الشمال والاعيان الدروز في الجنوب، ويجري انتخابهم وتعيينهم بمعرفة عقلاهم ومطارنتهم من معتبري اهل الجبل. في تلك الفترة، ونتيجة لظروف دولية مساعدة، اتسعت دائرة الحقوق السياسية لكافة سكان السلطنة العثمانية، كما وبطبيعة الحال دائرة مشاركة المسيحيين في السلطة، وذلك تحديدًا بُعيد حرب القرم بين روسيا والسلطنة العثمانية (١٨٥٤-١٨٥٦). وتزامن ذلك مع بداية انهيار نظام المقاطعجية التقليدي، مما افسح المجال امام عامة الناس لاتخاذ المبادرة في ما يتعلق بصناعة القرار السياسي.
كانت شرعية هذين المجلسين مستمدة اكثر من بركة رجال الدين، وهو ما أدى الى تكريس قانوني للكراهية بين فريقين متنازعين يتسابقان للفوز بالمغانم والمناصب، وهذا ما يُعرف باللغة اللاتينية بمفهوم modus vivendi، أي تعايش فريقين متخاصمين مع نظام قائم الى حين تبدل الظروف لقيام احدهما بتغييره او الانقلاب عليه. واتت تلك الظروف عام ١٨٥٨، وتحديدًا مع الثورة الاجتماعية التي شهدتها القائمقامية الشمالية، والتي سرعان ما تحولت عام ١٨٦٠ الى حرب أهلية ثانية في جبل لبنان وقعت خلالها مجازر بحق المسيحيين، وكان ذلك نتيجة الطابع الإسلامي الذي اتخذته السلطنة العثمانية منذ منتصف القرن السابع عشر، والذي تعزز خلال القرن التاسع عشر وتحديداً بعد حرب القرم ضد روسيا. إلا انه وخلال تلك الاحداث، اتفقت الدول الكبرى على وضع نظام خاص للبنان، عُرف هذه المرة بنظام المتصرفية. يقوم هذا النظام الجديد على انشاء إقليم مستقل في "لبنان الصغير"، وتضمن الدول الكبرى استقلاله. ووفق هذا النظام، تُعيّن السلطنة العثمانية، وبعد موافقة الدول الكبرى، حاكماً مسيحياً غير لبناني على متصرفية جبل لبنان. وقضى النظام الجديد ايضًا بإنشاء مجلس تمثيلي يمثّل تمثيلاً نسبياً كل طوائف الجبل، ويتّم انتخاب أعضاء المجلس التمثيلي بطريقة غير مباشرة من خلال قيام الرجال الذين اتمّوا الواحد والعشرين في متصرفية جبل لبنان بانتخاب ممثلين عنهم، ويشكّل هؤلاء المجمع الانتخابي الذي يقوم أعضاؤه بانتخاب أعضاء المجلس التمثيلي. وكانت تجري عملية الانتخاب امام ممثل الباب العالي وعلى الناخب ان يُدوّن اسمه على بطاقة الانتخاب وان يوقع على خياره. وكان يجري ذلك بالاتفاق طبعًا مع رؤساء طوائف المرشحين ومع بعض وجهاء الطائفة، وبعد ذلك تقوم الحكومة العثمانية بتنصيبهم. وفي حين ترك هذا النظام الانتخابي جانباً مسألة عدد الطوائف، وجرى التخلي مبدئياً عن المساواة في دورها السياسي، فإنه قد اخذ بالاعتبار عدد الافراد. فالنظام التمثيلي اخذ يستند الى معايير ديمغرافية، الامر الذي اعطى طريقة التمثيل هذه بعداً سياسياً هاماً جداً. وتجدر الإشارة الى ان سكان الولايات العثمانية في البقاع وطرابلس، بدأوا يشاركون بدورهم، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، بانتخابات المجالس العثمانية.
وضع دخول الجيش العثماني الى متصرفية جبل لبنان في تشرين الثاني ١٩١٤ حداً نهائياً لنظام المتصرفية، وانتهج ابتداءً من العام ١٩١٥ سياسة تجويع اللبنانيين بهدف ابادتهم. ولكن، ومن مآسي الحرب العالمية الأولى وُلدت فكرة لبنان الكبير، التي وجدت تأييداً لها بين أعضاء مجلس المستشارين في لبنان الصغير، كما في أوساط الكنيسة المارونية. وبعد تردد فرنسي، قام الجنرال هنري غورو في بيروت في الأول من أيلول عام ١٩٢٠ بإعلان دولة لبنان الكبير. وفي ١٠ اذار عام ١٩٢٢، صدر اول قانون للانتخابات النيابية وحمل الرقم ١٣٠٧. وقام هذا القانون بتحديد الدوائر الانتخابية، المحافظات، والمقاعد، ثلاثين مقعدًا، وبالتوزيع المذهبي والمناطقي للمقاعد. وسرعان ما شكّل هذا القانون المصدر الأساسي لكل القوانين الانتخابية التي وُضعت منذ العام ١٩٢٢ وحتى عام ٢٠١٨. وفي العام ١٩٢٢، ظهرت مؤسسة البرلمان اللبناني، ومع هذا التأسيس اخذت الحياة الديمقراطية، وبالتالي البرلمانية وجهًا جديدًا شبيهًا بذلك الموجود في فرنسا. وشهد لبنان خلال فترة الانتداب ستة مجالس تمثيلية، اثنان قبل إقرار الدستور في أيار ١٩٢٦، وأربعة مجالس حتى تحقيق الاستقلال في تشرين الثاني ١٩٤٣.
يبدو ومن خلال هذا العرض التاريخي ان الثقافة الديمقراطية متجذرة في لبنان، وهي تُشكّل بالتالي جزءاً اساسياً من الهوية اللبنانية المتميزة عن مناطق ودول الجوار. وبناءً على ذلك، ان أي محاولة من قبل السلطة الحاكمة لسرقة حق الشعب في محاسبة ممثليه عام ٢٠٢٢، لا تعتبر مجرد سرقة تُضاف الى سلسلة السرقات التي حصلت بحق الشعب اللبناني منذ خريف ٢٠١٦، بل تُشكّل ضربة موجعة لركن أساسي من الهوية اللبنانية، ما يشكّل تهديداً خطيراً على وجود الكيان اللبناني واستقلاله وحرية شعبه.