معايير وشروط الترشح للانتخابات النيابية في لبنان
كتب الدكتور هيكل الراعي في الجمهورية:
يتوافق أساتذة القانون وخبراء الدستور على أنّ للقوانين الانتخابية وظائف محدّدة آنية ومستقبلية، وهي تعكس في تفاصيلها الموازين والتحالفات بين القوى السياسية. وقد عرف لبنان خلال تاريخه الحديث عدداً من القوانين الانتخابية التي كانت تتمحور في تفاصيلها حول حجم الدوائر الانتخابية وعدد النواب في كل دائرة، مع اعتمادها النظام الأكثري كقاعدة لتحديد الفائزين.
ونتيجة مطالبات ومساعٍ تهدف، كما كان يظن البعض، إلى أن تختار كل طائفة نوابها، أقرّ مجلس النواب اللبناني السابق قانوناً هجيناً للانتخابات، يجمع بين الأكثري والنسبي مع صوت تفضيلي. هذا القانون في تقسيمه للدوائر الانتخابية وفي آلياته، منع الأحزاب العلمانية، التي تحظى بتأييد شرائح مهمّة من اللبنانيين، من حقها في الوصول إلى السلطة التشريعية، لأنّها لا تستطيع الدخول في بازارات تشكيل اللوائح الانتخابية، إما بسبب توزع مؤيّديها على كل الدوائر الانتخابية أو بسبب ضعف إمكاناتها المالية. من هذا المنطلق يمكن القول إنّ القانون الحالي للانتخابات النيابية صيغ على قياس أحزاب وقوى سياسية، وأصبح بالتالي على كل من يفكّر بالترشح للانتخابات النيابية أن يؤمّن على الأقل أحد الشروط التالية:
1 - أن يكون عضواً في أحد الأحزاب السياسية، وخصوصاً الأحزاب الطائفية، لأنّ الأحزاب العلمانية لا فعالية لها ولا دور، وأن يكون مقرّباً من رئيس الحزب ومدافعاً شرساً عن كل تصريحاته ومواقفه. فالأحزاب اللبنانية تتمحور في غالبيتها حول أشخاص وعائلات، ولا تختلف بشكل عميق في ما بينها في الإيديولوجيا والبرامج والتوجّهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. انطلاقاً من ذلك يختار رئيس الحزب المرشحين من بين الذين يظهرون الولاء له ويؤيّدون كل مشاريعه وطموحاته وارتباطاته. وتستعين هذه الأحزاب في دوائر معينة بفئتين من المرشحين غير الحزبيين:
الفئة الأولى تمثل شخصيات لها تاريخها وسمعتها الجيدة، طامحة بالوصول إلى المجلس النيابي وتنتظر حزباً يتبنّاها، فتستفيد من دعم الحزب وتمنحه في المقابل ولاءها ويمكن أن تنتسب إليه. وقد بالغ بعض المرشحين (النواب) من هذه الفئة في تبنّي مواقف الأحزاب التي أوصلتهم إلى السلطة، بحيث أصبحوا متطرفين في مواقفهم وتصريحاتهم، حتى لو كانت تتعارض مع قناعاتهم وتاريخهم، أكثر من أعضاء هذه الأحزاب، حتى إنّ بعضهم نسي الشهادات العالية والألقاب العلمية التي يحملها وتحوّل مقاتلاً غرائزياً متطرفاً. ومن خلال هذا السلوك يضمن النائب رضى ودعم رئيس الحزب وموافقته على إعادة ترشيحه.
أما الفئة الثانية من المرشحين التي تستعين بها الأحزاب، فتتألف من المتمولين وأصحاب الثروات الذين يسعون للوصول إلى المجلس النيابي.
2 - أن يكون من أصحاب الثروات الضخمة بغض النظر عن مصادرها (أعمال مشروعة أو عمليات تهريب مخدرات أو أموال مشبوهة)، وأن يكون مستعداً للتخلّي عن ملايين الدولارات، إما لشراء ولاء ودعم أحد رؤساء الأحزاب (تعويضاً عن الانتماء الحزبي) او لشراء أصوات الناخبين مباشرة عبر المفاتيح الانتخابية. هؤلاء يُصنّفون تحت عنوان المرشحين المستقلين والمتحالفين مع الحزب الذي تبنّى ترشيحهم. وهم من خلال الأصوات التي يشترونها يؤمّنون دعماً مهمّاً للائحة الحزب. ويُقال أنّ أحد المرشحين في الانتخابات النيابية السابقة (2018)، وهو من كبار رجال الأعمال، دفع نحو 10 ملايين دولار للحصول على مقعد نيابي يؤمّن له حصانة من الملاحقة القضائية على شبهات تطاول نشاطاته الصناعية والتجارية والمالية. وقد حاولت القوانين الانتخابية منذ إعلان دولة لبنان الكبير، وضع ضوابط على إنفاق المرشحين الأموال، لعدم التأثير على توجّهات الناخبين، ولكن غالبية هذه الضوابط بقيت حبراً على ورق ولم تُطبّق، بحيث بقي للأموال التي ينفقها المرشحون الدور الفاعل في تأمين فوزهم. وقراءة تاريخ المجالس النيابية في لبنان تؤكّد أنّ التمثيل النيابي كان في قسم كبير منه محصوراً بالمتمولين من أبناء العائلات الكبيرة.
3 - أن يكون مرتبطاً بدولة أجنبية (مصالح سياسية مالية أو أمنية)، بحيث تستطيع هذه الدولة فرضه على حزب تموّله وترعاه. ويتمّ ذلك إما من خلال تأسيس جمعية (لا تبغي الربح !!!) تحمل أهدافاً إنسانية سامية يسعى عبرها المرشح لكسب رضى وتأييد شرائح معينة من السكان المحتاجين، أو من خلال تأمين إطلالات إعلامية مدفوعة له، مع تزويده بعض التقارير المخابراتية، لتلميع صورته وتحويله نجماً إعلامياً وخبيراً سياسياً. هذا المرشح (النائب) لديه أجندة سياسية عليه أن يلتزم بها وأن لا يحيد عنها، تخدم الدولة التي رعته وأوصلته. وهو في كل مواقفه وتصريحاته وسلوكياته السياسية يبقى أسير مصالح الدولة الأجنبية وأجهزتها.
4 - أن يكون من أبناء العائلات أو العشائر الكبيرة التي تملك ثقلاً انتخابياً تستطيع بواسطته فرض مرشحيها على الأحزاب. فهذه العائلات تستطيع فرض مرشحها على الحزب مقابل الأصوات الناخبة التي تمنحها له. أو أن يكون من أبناء البيوتات السياسية التي تملك تاريخاً من العمل السياسي، إضافة إلى ملكيات وأموال وثروات تستطيع استثمارها وإنفاقها في الانتخابات، ولديها عدد من المناصرين والمؤيّدين الذين أمّنت لهم الوظائف والخدمات والرعاية مقابل ولائهم. لكن هذه البيوتات السياسية تراجع دورها نتيجة الوعي الذي انتشر بين الشباب، وأصبح مرشحوها يبحثون عن أماكن لهم على لوائح الأحزاب، بعدما كانت اللوائح الانتخابية تخرج من مطابخها.
وفي ظلّ القانون الانتخابي الحالي، فإنّ كل من لا يملك أحد الشروط الواردة أعلاه، ومهما كانت شهاداته وخبراته ومؤهلاته، ويفكر بالترشح للانتخابات، متكلاً على صداقاته وخصوصاً الفايسبوكية، هو إنسان يعاني من ضعف في الرؤيا والقراءة والتحليل، ويحتاج إلى علاج نفسي على أيدي أطباء متخصصين. فالأحزاب التي شاركت في السلطة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي تتحمّل، ولو بنسب مختلفة، المسؤولية عن أوسخ وأحقر جريمة ارتُكبت بحق لبنان واللبنانيين. هذه الاحزاب المتناحرة والمتخاصمة في العلن والمتفاهمة في السرّ، لن تسمح لقوى التغيير الحقيقية بالوصول إلى المجلس النيابي، وهي ستبذل قصارى جهدها في الانتخابات النيابية المقبلة، إذا حصلت، للحصول على براءة ذمّة شعبية عن كل فسادها وجرائمها ونهبها لأموال اللبنانيين ولجنى أعمارهم. لن يستطيع اللبنانيون الشرفاء المظلومون المقهورون والمجروحون في كراماتهم ولقمة عيشهم، تغيير العصابة السياسية - المصرفية واعتقال رموزها ومحاكمتهم وسجنهم واستعادة الأموال المنهوبة منهم، لأنّها عصابة متجذرة في المجتمع اللبناني، ولها ولاءات حزبية وطائفية متماسكة، إضافة إلى دعم من قوى خارجية فاعلة.